هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكةCNN.
زدنا قناعة خلال الأيام القليلة الماضية بأن فشل مباحثات جنيف الأخيرة تطور كارثى، وربما هدد فرص التوصل إلى صيغة تحافظ على وحدة الكيان السورى. نقول هذا ونحن نسمع من مسافة ليست بعيدة طبول الحرب الأوسع تدق، نرى غمامات ترابية ورملية تثيرها دبابات هادرة ترفع رايات يأس أو فى اسوأ الأحوال رايات غضب مدفوع بقصر نظر أحيانا وتضارب رؤى فى أحيان أخرى.
تلاقت خلال الأسابيع الفائتة إرادتا المملكة السعودية وتركيا. أسفر التلاقى عن نية صياغة اتفاق تعاون استراتيجى يوقع فى أبريل المقبل خلال زيارة العاهل السعودي إلى أنقرة. يقضى الاتفاق، بين ما يقضي وحسب ما ورد في الصحف، بتعاون الدولتين فى تنفيذ عمليات تدخل ثنائي وربما مشترك مع دول أخرى من بين أعضاء تحالف صوري شكلته الولايات المتحدة قبل عدة شهور . كان هدفه المعلن محاربة داعش. أما اتفاق التعاون بين الدولتين الاسلاميتين فيتبنى شكلًا الهدف ذاته، ولكن أحدا لا يخفي أن الهدف الحقيقي من التدخل هو إسقاط النظام الحاكم في سوريا بالقوة المسلحة.
اقرأ: تركيا تنفي حشد السعودية وحلفاءها 150 ألف عسكري لمحاربة "داعش" بسوريا عبر تركيا
استندت معظم التحليلات التى ناقشت مسألة التدخل العسكرى المشترك من جانب المملكة وتركيا وحلفاء آخرين إلى قائمة غير قصيرة من دوافع محتملة اشتركت فى «حشر» الدولتين داخل قناة تعددت منابعها وتوحد مصبها. كان واضحا لنا في القاهرة أن تجاربنا مع خطط واشنطن لم تكن دائما موفقة، بل أن بعضها كان كارثيا وعلاماته نراها يوميا على أرض الواقع المصري والعربي والشرق أوسطي. بدافع القلق وعدم الاطمئنان شكلنا مجموعة عمل كلفتنى وزميلين بصياغة تقرير عن اجتهاداتها فيما يخص حقيقة الدوافع وراء الاتفاق السعودي التركي وخلاصة توصياتها. وضعنا التقرير، واسمح لنفسي فيما يلي بعرض بعض جوانب النقاش.
يشهد تاريخ العلاقات على وجود مسافة باردة فصلت طويلا بين أنقرة والرياض .لم تتمكن الدولتان من تجاوزها إلا حديثا جدا. كان لابد للدولتين، أن ينتظرا وصول الإسلاميين إلى الحكم فى أنقرة فى تسعينيات القرن الماضى قبل ان يجتهدا معا فى إزالة جزء بعد آخر من مسافة البرودة. بقيت قضايا، ليست ثانوية، ولكن هناك جهد حقيقي يبذل لتفادى الإعلان عنها او الخوض فيها، مثل تداعيات أزمة تدمير السعوديين لقلعة أجياد العثمانية ومثل ما تصورته تركيا مغالاة سعودية فى «استعداء» إيران ومثل ما اعتبرته المملكة عرقلة تركية لمساعي الرياض دعم نظام الحكم القائم في مصر وتحقيق الاستقرار فيها.
التقت المملكة السعودية وتركيا على تحميل الإدارة الأمريكية الحالية مسئولية تدهور أوضاع الأمن في الشرق الأوسط نتيجة التغيرات السياسية والعسكرية التى أدخلها الرئيس أوباما على مجمل السياسة الخارجية الأمريكية. كانت تركيا إلى عهد قريب تتمتع بحال انسجام كاملة سادت في العلاقات الأمريكية التركية لمدة طويلة، ندر ان يحدث ما يعكرها.
فجأة، توترت العلاقات حين وجدت أنقرة نفسها أمام سلسلة ضغوط سياسية وحملات إعلامية أمريكية تذكر بمذابح الأرمن، أو تندد بسوء معاملة الصحفيين وتنتقد ميل أردوغان لممارسة التسلط واستخدام العنف ضد معارضيه.
من ناحية أخرى، انتاب القلق حكام تركيا بسبب تغير فى السياسة الأمريكية تجاه الأزمة السورية اعتبروه تحولا جوهريا. بدا لهم ان الأمريكيين أصبحوا يميلون إلى أولوية التعامل مع الإرهاب على حساب أولوية إسقاط نظام بشار الأسد. هذا التغير اشتركت في انتقاده كل من أنقرة والرياض. كلاهما يعتبر الأسد جوهر الصراع فى سوريا، وما الإرهاب إلا قضية عابرة وناجمة عن عسف النظام. لقد تأسس إعلام الدولتين منذ بدء الأزمة على التزام تخليص الشعب السورى من نظام مستبد. من ناحية أخرى لم يرق لحكام أنقرة الاهتمام المتزايد من جانب الرسميين والإعلاميين الأمريكيين بقضية أكراد سوريا، والتعامل مع التنظيمات الكردية السورية بشكل مختلف عن تعاملهم مع تنظيمات المعارضة الأخرى. بمرور الوقت واستمرار تدهور الأزمة السورية تعمق الشعور لدى أردوغان ومساعديه بأن أمريكا لم تعد مهتمة بدرجة كافية بقلق تركيا على مصالحها ومستقبلها فى الشرق الأوسط. ظهر واضحا النفور التركي عندما رفضت أمريكا فكرة إقامة منطقة آمنة على حدود تركيا مع سوريا فضلا عن انها لم تتخذ موقعا حاسما أو حازما من التدخل العسكرى الروسى فى سماء سوريا، ومن اعادة تسليح الجيش السورى أو من الخطوات الواسعة التى خطتها الاستراتيجية الروسية لإعادة تأهيل نظام الأسد وإعداده لمباحثات الحل السياسي.
لم تكن المملكة السعودية أقل غضبا على الولايات المتحدة من تركيا عندما قررت عقد اتفاق تعاون استراتيجى مع أنقرة، ولم تكن السعودية الدولة العربية الوحيدة الغاضبة، أو على الأقل المحبطة، من سياسات واشنطن. صحيح ان أمريكا تدخلت فى العراق بدعم عربى كبير، وبخاصة من السعودية، ولكنها تركت للعراق تركة ثقيلة وفوضى عارمة تهدد استقرار المنطقة. الأدهى بالنسبة للمملكة أن أمريكا انسحبت تاركة العراق خاضعا لإيران. تدخلت فى سوريا، وكان الأمل السعودي فيها كبيرا. إلا أن ما حدث على أرض الواقع أثبت ان لأمريكا مصالح تختلف جذريا عن مصالح المملكة وحلفائها في الخليج.
يبدو من ظواهر الأمور أن صانعى السياسة الخارجية والدفاع فى المملكة ربما كانوا قد توصلوا مبكرا إلى نفس ما توصل إليه انطونى كوردسمان كبير الباحثين فى بروكنجز في آخر دراسة له من ان مكانة أمريكا فى الشرق الأوسط وقدرتها على تنفيذ إرادتها اضعف كثيرا مما كانت عليه فى أى وقت مضى. توصلوا أيضا إلى ان الاعتماد المطلق على أمريكا، كما كان الحال على الدوام على امتداد قرن أو أكثر، لم يعد كافيا وحده لحماية مصالح المملكة، ومصالح دول الخليج العربية. أضف إلى ما سبق قرار أمريكا إخراج إيران من عزلتها ومنحها فرصة ذهبية تعود من خلالها إلى ساحات المجتمع الدولى، من دون أن تحاول هي أو تسمح لغيرها من الدول الحصول على التزام كاف من إيران بالامتناع عن التدخل فى شئون الدول العربية.
أرادت المملكة ان يكون الإعلان عن عزمها التدخل عسكريا رسالة إلى الرأى العام الأمريكى انها حليف مستجيب لرغبة قيادة الحلف ممثلة في أشتون كلارك. أرادت أيضا ان تقول لكل الاطراف المعنية بأن هذه القوات تدخل سوريا تحت حماية الولايات المتحدة التي يجب ان تضمن لقواتها وقوات غيرها من اعضاء الحلف عدم تعرض الطيران الروسي لها.
أيضاً: الخارجية الروسية: لا نركز على تأييد نظام الأسد.. والسوريون يهربون من "داعش" وليس من قواتنا
وبرغم وضوح الرغبات وتلاقيها لا يخفى محللون ومتابعون لتطور الحلف المناهض للإرهاب شكوكهم فى نوايا بعض أعضاء الحلف. ليس كل الأعضاء صادقى النية فى محاربة الإرهاب، بل أن أكثر الدول المناهضة للارهاب لم تتفق على توصيف موحد للارهابي. فبالنسبة للأتراك الإرهاب في نظرهم هو الجهد العسكرى والسياسى الذى يمارسه النشطاء ودعاة الانفصال فى كردستان. هؤلاء في نظر أنقرة ينتصرون لنظام الأسد. دول أخرى ترى في بشار الأسد صورة الارهابي الأعظم ولا ينوون الدخول فى مواجهة مع منظمات وميليشيات مسلحة ومتطرفة، أما الغالبية العظمى من الأعضاء فقد انضمت إلى الحلف حرجا أو ترضية أو لحاجة مادية أو معنوية. حلف هكذا يكون تشكيله ونوايا وقدرات أطرافه لن يأخذه العالم، ولا الروس ولا السوريون، مأخذ الجد. وفى النهاية سيقتصر دوره على مد أجل الحرب لفترة أطول.
لم يحدث منذ نشوب الأزمة السورية ان ارتفع هذا العدد من الأصوات وظهرت هذه الكمية من الدراسات ضمن حملات الترويج لمشروعات وخرائط تقسيم سوريا. قرأنا آخرها، ولا شك أن آخرين فى الغرب، وفى واشنطن بخاصة، قرأوا مشروع مايكل أوهانين من معهد بروكنجز. ثلاثة كيانات فى سوريا، كيان يجمع «الأقليات»! من مسيحيين وعلويين ودروز وغيرهم وعاصمته دمشق، وكيان كردى، وكيان مكون من منظمات وميليشيات سنية متعددة تختلف وتتقاتل باستمرار وتتنازع على مساحات ورعايا ورؤى شرعية واجتهادات دينية. نسأل كما يسأل كثيرون حريصون على «أولوية» وحدة سوريا، نسأل ان كان يوجد فى الاتفاق السعودى التركى ما يلزم الدولتين والدول الاخرى في الخلف بوحدة سوريا؟ نسأل ان كانت تركيا تعهدت بالوضوح اللازم انها لن «تبيد» باسم الحلف وتحت راياته وشرعيته الشبان السوريين الأكراد الذين تصر على اعتبارهم إرهابيين ومتحالفين مع حزب العمال الكردستانى وحكومة دمشق.
نسأل عن سبب إهمال أو تجاهل جامعة الدول العربية. نعرف ان القمة القادمة سوف يعرض عليها الأمر بشكل روتينى للحصول على شرعية إقليمية أمام العالم الخارجى، وهو في الغالب شرط أمريكي. ولكن ألا يختلف الوضع هذه المرة. سوريا، العضو المؤسس بالجامعة العربية، تتعرض لخطر الانفراط اذا لم يتضمن ميثاق الحلف الجديد المتفرع عن الحلف العالمي ضد الارهاب هدف استعادة وحدة الاراضي والشعوب السورية.
لم نسمع بعد عن تصور الزعماء العرب مجتمعين ، أو زعيم واحد على الأقل، لشكل الشرق الأوسط فى المستقبل. هل يتصورون استمرار الحال متدهورا نحو البعثرة ، هل يتصورون شرق أوسط جديد بدول أقل أو أكثر عددا، هل نعود إلى وضع إقليمى ونظام إقليمى تأكد فشله، نكمل عليه فننهيه أم نعيده للحياة. لا نرى ولا نسمع زعماء عربا ومسلمين في قامة أسلافهم وخيالهم والتزامهم عروبة الأرض التي أسلمت لهم مقاليدها وثرواتها وامالها.
نسأل عن مستقبل علاقات تركيا بالأقليم. لا ننسى أن تركيا، كانت ولاتزال بعد سوريا، الخاسر الأكبر حتى الآن. فقدت وتيرة القفزة الاقتصادية والتجربة التى انتقلت بها قبل الحرب السورية من حال إلى حال. كانت، قبل الحرب السورية، تحقق سلما داخليا مع الأكراد وبين الطبقات والمؤسسات، فقدت السلم والأمان، وكادت هذه المرة تقع هى نفسها فريسة حرب أهلية وتراجع اقتصادى واستقطاب سياسى وقمع بوليسى. ألا تبدو رغبتها واضحة أن تتوسع فى شمال سوريا وتتدخل لفرض واقع جديد على بقية سوريا.
ومع ذلك، نسأل أيضا، ان كان يحق لتركيا، بسبب المشكلات التى نشأت عن هجرة السوريين إليها أو عبورا لها، أن تفعل ما تشاء في سوريا مثلما حاولت أن تفعل فى مصر الدولة العربية الأكثر سكانا والأوقع تاثيرا.
و.. مستشار وزير الدفاع السعودي: إعلان المملكة المشاركة بقوات برية في سوريا قرار لا رجعة فيه
تضررت تركيا من الحرب الأهلية السورية، ومن تضارب نوايا الدول المتدخلة، تضررت اقتصاديا وأمنيا واجتماعيا وقوميا، وربما تضررت أيضا فى علاقاتها بالاتحاد الأوروبى ودفعت أو ستدفع ثمنا غاليا، وتضررت نتيجة تدهور علاقاتها بالحليف الأمريكى، وفقدت الكثير جدا وقد تفقد أكثر لو استمرت تلعب دور «الطعم» لقياس قوة وشهوة روسيا خدمة للحلف الأطلسى، فى وقت لم يعد للحلف مكانة أو وحدة صف أو أهداف واضحة. الحلف الذي فشل في ردع روسيا في اوكرانيا وجورجيا وغيرهما.
كنا شهودا فى الأسابيع الأخيرة على تغير مهم في توازن القوى العسكرية فى سوريا لصالح حكومة دمشق بفضل موسكو. لا نتصور ان روسيا ستقبل ببساطة دخول قوات عسكرية إسلامية إلى سوريا لتعيد التوازن إلى سابق عهده، ولا نتصور انها، بعد مرور أسابيع أو أيام، ستقبل انعقاد مؤتمر جنيف بالشروط نفسها، فجنيف الحالى يستمد مرجعيته من جنيف (١)، وقرار مجلس الأمن رقم ٢٢٥٤، وكلاهما ثمرة توازن قوى على الأرض السورية وفى الإقليم انتهى ولم يعد قائما.
نخشى ان يؤدى التدخل العسكرى الإسلامى السني تحت قيادة الولايات المتحدة إلى التعجيل بتقسيم سوريا بين طوائف وقوميات، والعراق شاهد. نخشى ان وقع تدخل عسكرى سعودي تركي سني ان تتدخل إيران شيعيا فتشتعل الحرب الإقليمية الطائفية التى توسلنا ألا تقع. نخشى ان اشتعلت هذه الحرب ان تتدخل روسيا بريا وبحريا ومن الجو فان حدث وتدخلت، ففى الغالب لن تتدخل الولايات المتحدة لتحمى حلفاءها الذين دعتهم إلى التدخل واستجابوا. أوباما لا يتدخل بقواته البرية ليس لأنه ضعيف الشخصية أو لأنه إنسان مسالم وطيب القلب، أوباما ينفذ سياسة دفاعية تشكلت من خلال توافق عام بين مؤسسات الدولة الأمريكية، وهي السياسة التي سوف يلتزم بها الرئيس الجديد القادم الى البيت الأبيض بعد أقل من عام.