دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- في أواخر الخمسينيات من عمرها بدأت الأمور تتغيّر بالنسبة لتامي مايدا، البالغة من العمر اليوم 67 عامًا. في البداية، كانت تفقد أغراضها مرات عدة في اليوم، مثل مفاتيحها، وخاتمها، ونظاراتها، ومحفظتها. بعد ذلك، توقفت القارئة النهمة عن المطالعة لأنها لم تستطع تذكّر الفصل الأخير الذي قرأته في الكتاب أو الشخصيات الرئيسية.
وقالت مايدا لكبير المراسلين الطبيين لدى CNN، الدكتور سانجاي غوبتا، في فيلم "مريض الزهايمر الأخير" الوثائقي: "اعتقدت أنّي كنت أفقد عقلي، وكنت أشعر بخوف كبير".
واليوم، عادت مايدا إلى قراءة الروايات القصيرة والمساعدة في الشؤون المالية للأسرة.
أما مايك كارفر، الذي يبلغ من العمر 71 عامًا، فهو مريض آخر شُخّصت إصابته بمرض الزهايمر المبكر في سن الـ64 عامًا، حيث كان حاملًا لنسختي الجين APOE4، وهما يشكلان الخطر الوراثي الأكبر المعروف لمرض الزهايمر.
لكن، كيف استعاد مايدا وكارفر ما سلبه الزهايمر منهما؟
وتأتي الإجابة أن ذلك حصل من خلال مشاركتهما في ما يسميه الباحثون بأول تجربة سريرية عشوائية محكومة لاستخدام تدخلات نمط الحياة، وإظهار التحسن المعرفي لدى الأشخاص الذين يعانون من ضعف إدراكي خفيف، أو خرف مبكر بسبب مرض الزهايمر.
"دراسة تُعطينا الأمل"
وكانت الدراسة، التي نُشرت في مجلة "Alzheimer’s Research and Therapy"، الجمعة صغيرة، حيث تلقى العلاج 24 شخصًا فقط، وكان هناك عدد مماثل بمثابة مجموعة تحكّم على مدى فترة قصيرة مدتها خمسة أشهر. لم يظهر الجميع تحسنًا. لكنّ ثمة تغييرات ملحوظة شهدها بعض المشاركين وأسرهم.
بقيت مهارات التفكير لدى غالبية الأشخاص في مجموعة التدخل كما هي، وتراجعت لدى غالبية الأشخاص في المجموعة الضابطة.
وقال الدكتور دين أورنيش، أستاذ الطب السريري في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو، إن عشرة أشخاص شهدوا تحسنا فعليا في قدراتهم الإدراكية، بينما وجد اختبار الدم أن مستويات الأميلويد أي السمة المميزة لمرض الزهايمر تتراجع.
وقال رودي تانزي، أحد كبار مؤلفي الدراسة، والباحث في مرض الزهايمر، وأستاذ علم الأعصاب بكلية الطب في جامعة هارفارد ببوسطن، إن التجربة السريرية استغرقت خمسة أشهر فقط، وأتت بنتائج "مذهلة".
ولفت تانزي، مدير مركز ماكانس لصحة الدماغ في مستشفى ماساتشوستس العام ببوسطن إلى أنّه "إذا تخيّلت دماغًا مليئًا بالأضرار مثل حوض مملوء بالماء، فعندما تغلق الصنبور، يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى يتم تصريف هذا الحوض ببطء، أليس كذلك؟".
وتابع: "إذا كنت تريد أن ينخفض مستوى الأميلويد خلال 20 أسبوعًا، كما وجدنا في أحد اختبارات الدم، فستحتاج إلى جهاز Roto-Rooter".
وهذا بالضبط ما فعلته الدراسة، أي تزويد الأشخاص بتدخل مكثف ومتعدد الأجزاء ومُصمم بدقة في نمط الحياة، يستهدف العديد من المساهمين في التدهور المعرفي. أما أولئك الذين بذلوا جهدًا أكبر فقد حصلوا على أفضل النتائج.
وقال أورنيش، وهو مبتكر برنامج النظام الغذائي وطب نمط الحياة في أوورنيش، ومؤسس ورئيس برنامج أورنيش للحمية الغذائية وطب نمط الحياة بمعهد أبحاث الطب الوقائي غير الربحي، إنه "كانت هناك علاقة ذات دلالة إحصائية بين الجرعة والاستجابة فيما يخص درجة الالتزام بتغييرات نمط حياتنا ودرجة التحسن التي شهدناها في مقاييس الإدراك".
وأعربت الدكتورة سوزان شندلر، الأستاذة المساعدة في علم الأعصاب بكلية الطب في جامعة واشنطن بسانت لويس عن رغبتها بوصف "هذه الدراسة بأنها إيجابية حقًا، وعبارة عن تجربة صغيرة، ونقطة انطلاق لمزيد من الأبحاث".
وقالت شندلر، غير المشاركة في الدراسة: "أتمنى أن نتمكن من تنفيذ برنامج مثل هذا للجميع، وليس فقط للأشخاص الذين يعانون من ضعف إدراكي خفيف، أو مرحلة مبكرة من مرض الزهايمر".
"غذاء جيد.. حركة أكثر.. توتر أقل.. وحب أكثر"
لقد سبق وتم اختبار أسلوب الحياة الذي ابتكره أورنيش وقوامه: "تناول طعامًا جيدًا، وتحرك أكثر، وقلّل من التوتر، وأحب أكثر" . في عام 1990، أظهر أوورنيش لأول مرة من خلال تجربة سريرية عشوائية أن مرض الشريان التاجي يمكن عكسه في كثير من الأحيان عبر اتباع نظام غذائي، وممارسة الرياضة، والحد من التوتر، والدعم الاجتماعي.
منذ ذلك الحين، أظهرت الأبحاث أن البرنامج ذاته الذي يتكونّ من أربعة أجزاء يمكن أن يخفض نسبة السكر في الدم، وخطر الإصابة بأمراض القلب لدى مرضى السكري، ويقلّل من نمو خلايا سرطان البروستاتا، ويحسن الاكتئاب، ويقلّل من مستوى "الكولسترول السيئ.
وسأل أورنيش: "كيف يمكن لهذه التغييرات الأربعة في نمط الحياة أن توقف، بل وتعكس في كثير من الأحيان، تطور هذا النطاق الواسع من الأمراض المزمنة الأكثر شيوعًا والمكلفة؟".
وأجاب: "لأنها تشترك جميعًا في العديد من الآليات البيولوجية الأساسية نفسها: الالتهاب المزمن، والإجهاد التأكسدي، والتغيرات في الميكروبيوم، والتغيرات في التعبير الجيني، والتغيرات في وظيفة المناعة، وما إلى ذلك".
وتابع: أنّ "خيارات نمط الحياة التي نتخذها كل يوم، ما نأكله، وكيف نستجيب للتوتر، ومقدار التمارين التي نمارسها، ومقدار الحب والدعم الاجتماعي الذي نتمتع به، يمكن أن ينشّط أو يقلّل من تنظيم هذه الآليات المختلفة".
العناية بالقلب والعقل
وبما أن ما هو مفيد للقلب مفيد للدماغ، تساءل أورنيش، لماذا لم ينجح هذا التدخل أيضًا بعلاج مرض الزهايمر المبكر أو أشكال الخرف الأخرى؟
وأجاب: "إذا وجدنا أن المرضى لم يتحسنوا، فسيكون ذلك مخيبا للآمال ولكنه اكتشاف مهم، يحتاج الناس إلى معرفة ذلك. ولكن إذا وجدنا أنه يمكننا إبطاء أو إيقاف أو حتى عكس تطور مرض الزهايمر، فسيكون ذلك اكتشافًا مهمًا أيضًا".
لمعرفة ذلك، بدأ أورنيش وأساتذة من مراكز أكاديمية رائدة أخرى في استقطاب المرضى للمشاركة في دراسة جديدة. لكن تسبب فيروس كورونا بتوقّف التقدم، حتى أدرك الفريق أنه يمكنه تقديم التدخل عبر مكالمات الفيديو الجماعية.
تم اختيار 51 شخصًا للدراسة، وقسّموا عشوائيًا إلى مجموعتين: مجموعة واحدة تتبع نظامًا غذائيًا نباتيًا، وتمارس التمارين الرياضية اليومية، والحد من التوتر، وتنخرط في مجموعات الدعم عبر الإنترنت لمدة 20 أسبوعًا، في حين أن المجموعة الضابطة لا تفعل ذلك.
أجرى أحد خبراء التغذية دروس فيديو مدتها ساعة حول النظام الغذائي، في حين قاد المعالج جلسات جماعية طويلة بالقدر ذاته ثلاث مرات أسبوعيًا، تتيح لأفراد المجموعة مشاركة مشاعرهم وتلقي الدعم.
قاد مدرب اللياقة البدنية تمارين القوة عبر الإنترنت، وشجع على المشي يوميًا لمدة 30 دقيقة، فضلًا عن قضاء ساعة في التأمل، والتنفس العميق، واليوغا. كما شجع البرنامج المشاركين على إعطاء الأولوية للنوم الجيد.
وقُدمت المكملات الغذائية للجميع في مجموعة التدخل حيث تناول هؤلاء يوميًا الفيتامينات المتعددة، وأحماض أوميغا 3 الدهنية مع الكركمين، والإنزيم المساعد Q10، وفيتامين C، وB12، والمغنيسيوم، والبروبيوتيك، وفطر عرف الأسد (Hericium erinaceus).
وبهدف التأكد من اتباع النظام الغذائي النباتي قليل المعالجة، تم توصيل جميع وجبات الطعام إلى منزل المشاركين.
وقال تانزي إن "ميكروبيوم الأمعاء يحب كل الألياف الموجودة بالحبوب الكاملة، والفاكهة، والخضار. لقد أظهر اختباري على الحيوانات أن الأمعاء السعيدة يمكن أن تحفز المستقلبات إلى الدماغ، التي تحفز الخلايا الدبقية الصغيرة على تناول المزيد من الأميلويد في الدماغ".
وتُعتبر الخلايا الدبقية الصغيرة خادمة الدماغ، وهي مسؤولة عن تنظيم المشابك العصبية، وإخراج النفايات الخلوية، والتهام المواد الضارة مثل الأميلويد
وتابع تانزي أنه عندما تموت الخلايا العصبية بسبب الإصابة، أو السن، أو مرض مثل مرض الزهايمر، تنحرف الخلايا الدبقية الصغيرة عن مسارها، وتتحول إلى خلايا قاتلة لدرء كل ما يبدو أنه يلحق الضرر بالدماغ. قد يؤدي القيام بذلك إلى إطلاق العنان لعاصفة السيتوكين، ما يؤدي إلى زيادة الالتهاب والتسبب بمزيد من إصابات الدماغ.
وأوضح تانزي أن تغييرات نمط الحياة يمكن أن تساعد الخلايا الدبقية الصغيرة على العودة إلى المسار الصحيح. إلى جانب اتباع نظام غذائي غني بالألياف. ويشجع النوم الجيد وممارسة التمارين الرياضية أيضًا الخلايا الدبقية الصغيرة وغيرها من إنزيمات إزالة الأميلويد على القيام بعملها.
التحسن عند البعض وليس الكل
وبعد خمسة أشهر من البرنامج، ظهرت النتائج. وبالنسبة لكارفر ومايدا، كان البرنامج بمثابة تغيير للحياة.
قالت مايدا لغوبتا: "بدأت سحابة تشخيص مرض الزهايمر في الانقشاع ببطء. بصراحة، أنا أفضل مما كنت عليه في السنوات التي سبقت بدء برنامج الدكتور أورنيش".
وأوضح جون موريس، وهو أستاذ علم الأعصاب المتميز والمدير المشارك لمركز أبحاث مرض الزهايمر بكلية الطب في جامعة واشنطن: "لقد كانت فترة تدخل مدتها 20 أسبوعًا فقط مع حجم عينة صغير يتكون من 24 شخصًا فقط".
ولفت موريس، غير المشارك في الدراسة إلى أنه "يبدو أن 10 أشخاص فقط من أصل 24 في مجموعة التدخل يتحسنون، وهذا يعني أن 14 شخصًا لم يتحسنوا. بشكل عام، إنه أمر مثير للاهتمام، لكنه يحتاج إلى دراسة أكبر، مع عينة أكثر تمثيلا وفترة علاج أطول لاستخلاص أي استنتاجات محددة".
من جهتها، أشارت شندلر إلى أنه "لسوء الحظ، لم تظهر جميع المؤشرات الحيوية تأثيرات متسقة"، موضحة أنه "إذا لم يكن هناك تغيير كبير في اختبار الأميلويد المسمى p-tau 181، والذي يُعتبر مقياسًا أعلى لخطر الإصابة بالزهايمر. ولم يكن هناك أي تغيير في البروتين الحمضي الليفي الدبقي، أو GFAP، وهو مؤشر حيوي آخر للدم يبدو أنه يرتبط بشكل معقول بمرض الزهايمر".
وأكدّ موريس أن التحسن الملموس في الحياة اليومية، وليس باختبارات الدم أو الاختبارات المعرفية، هو الأكثر أهمية بالنسبة لشخص مصاب بمرض الزهايمر وعائلته.