دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- عطّلت جائحة "كوفيد-19" الدور الذي كانت تؤديه المكاتب في حياتنا. وبحسب مسح أجراه مركز بيو للأبحاث، نُشر في فبراير/ شباط، فإنّ ستة عمّال أمريكيين من أصل عشرة يؤدّون وظائفهم من المنزل غالبًا أو طوال الوقت. وبين هؤلاء، أشار البحث إلى أنّ 42٪ منهم فقط ذكروا أن فيروس كورونا كان سببًا رئيسيًا لذلك، بينما أعرب أكثر من 75% من المستطلعين عن تفضيلهم العمل من المنزل، ببساطة.
وفي الوقت الذي يتساءل كثرٌ عمّا إذا كان ثمة حاجة إلى مكاتب في المطلق، فإنّ الصور الأرشيفية التي التقطها المصوّر ستيفن أهلغرين لأماكن العمل الأمريكية تذكرنا بماضٍ ليس ببعيد.
وخلال 11 عامًا، دأب أهلغرين على التقاط صور تقدّم لمحة عن طبيعة العمل داخل الشركات في تسعينيات القرن الماضي، ومطلع القرن الـ21.
وأثناء وجوده هناك، كان يصوّر مكاتب مجهزة بآلات كمبيوتر مربعة الشكل، وآلات فاكس، ومتاهات من الكابلات تحاكي التحولات التكنولوجية التي طرأت خلال العقدين الماضيين. لكن صور المصور حميمة أيضًا إلى حد يثير الفضول، ذلك أنها تظهر موظفين يحدقون بالأوراق، ويتحدثون من هواتف مكتبية، أو يحضرون اجتماعات تضيئها مصابيح أنبوب الفلورسنت.
وقال لـCNN "كنت أشاهد وألتقط بعض الصور خلال قيامهم بما يفعلونه عادة".
وفي نهاية المطاف، يمكن لأهلغرين التماهي مع مواضيعه، ذلك أنه كان مصرفيًا قبل احترافه التصوير، إذ وجد نفسه في صورة شاب يقف أمام آلة نسخ زيروكس واضعًا يديه في جيبي سرواله، ويغوص بأفكاره.
وقال أهلغرين: "إنّها أقرب صورة ذاتية لي التقطّها في حياتي"، مضيفًا: "كنت أقف هكذا حين عملت في المصرف".
وأوضح: "أشعر بالمرارة على السنوات التي أمضيتها بالعمل المصرفي، لأنها كانت مضيعة للوقت"، متابعًا أنه "عندما بدأت مشروع التصوير فكرت أنّ هناك أشخاص يهدرون حياتهم، مثلي تمامًا. لكنني تعاطفت معهم بعد ذلك، لأنهم ربما أحبوا عملهم".
وتقدّم المشاهد الكئيبة ظاهريًا حجّة مقنعة لنهاية زمن المكاتب كما عرفناها. إذ يندر تعكير صفاء بياض الجدران وخزائن الملفات بألوان فرحة، أكانت ربطات عنق زاهية، أو زينة، أو أعمال فنية مؤطرة.
لكن بالنسبة للعديد من الأشخاص، ستثير الصور مشاعر حنين إلى الماضي. ذلك أن في كل من هذه الصور قصص نجاح وإنجازات.
الشحن العاطفي
ولم يكن ماضي أهلغرين المؤسسي مصدر إلهامه الوحيد. فقد تأثر بلوحة إدوارد هوبر الزيتية بعنوان "المكتب في الليل". وتبرز اللوحة المنجزة عام 1940 رجلاً أنيقًا يجلس خلف مكتبه وامرأة شابة أمام خزانة ملفات محاذية له، تدعو المشاهدين إلى التكهن بالعلاقة المحتملة بين الاثنين.
وفي الثمانينيات من القرن الماضي، سيطر شعور متزايد بالملل على أهلغرين جراء مزاولته عمله كمصرفي في مدينة مينيابوليس، بولاية مينيسوتا الأمريكية، ما جعله يتردّد على نحو منتظم إلى مركز ووكر للفنون القريب من مكان العمل، حيث تُعرض هذه اللوحة.
وقال أهلغرين واصفًا عمل هوبر الفني إنّ "ما استخلصته من هذا العمل فكرة أن تكون بوضع يومي عادي للغاية، داخل مكتب عادي، وتجعل ما يدور فيه مثيرًا بهدف ملء التوتر السردي بطريقة ما".
ولم يكن يستخدم أهلغرين الإضاءة التي نراها لدى هوبر، التي تركز على المواضيع المنفردة وتلقي بظلال هندسية مؤثرة، عن سابق تصميم، لأنه لم يستعن بإضاءة خاصة به فكانت سريرية تمامًا، مرتبطة بتلك المزوّد بها المكتب المحدد الموجود فيه. لكن تأثير الرسام واضح أيضًا على الكثافة الهادئة والغموض الشعري في صوره، حيث غالبًا ما يصور الموظفين بمفردهم، أو خلال تفاعلهم مع شخصيات غير مرئية، وبوجوه متجهّمة.
ويستهل أهلغرين كتابه الجديد بعنوان "المكتب" الذي يضم أكثر من 60 صورة، بلوحة المكتب الخاصة بالرسام الأمريكي. وكتب في المقدمة المصاحبة له: "لقد كنت متحمسًا للتفكير بلوحة مكتب هوبر أكثر من أي عمل آخر كان عليّ أن أحضره بمفردي".
ورغم ذلك، يحتفظ أهلغرين بذكريات جميلة من مكتبه القديم في مينيابوليس الذي يصفه بأنه "مساحة جميلة" مزينة بلوحات اشتراها مدير شركته السابق المحب للفن. وبينما منحته الجائحة الوقت المثالي لإعادة تقييم هذه الصور، فإن انتقاد حياة الشركات "لم يكن أبدًا الهدف الذي أراده المصور".
كما أنه ليس مقتنعًا بأن "معضلة المكتب بأكملها" سببتها الجائحة، التي لم تعلن نهاية أماكن العمل المادية.
وخلص أهلغرين قائلًا: "أنا أعلم جيدًا أنني سأجد صعوبة بالعمل في المنزل"، موضحًا: "شاهدت بناتي في الكلية، وزوجتي يعملن من المنزل، وكاد أن يصيبني ذلك بالجنون".