خواطر دمشقية تنتعش وسط غابات أفريقيا "الثائرة"

سياحة
نشر
6 دقائق قراءة
تقرير ألما التركماني
خواطر دمشقية تنتعش وسط غابات أفريقيا "الثائرة"
Alma Al Turkmani
15/15خواطر دمشقية تنتعش وسط غابات أفريقيا "الثائرة"

يشتهر الجنوب أفريقيون بعشقهم للحوم وحفلات الشواء التي تسمى "براي" في لغة الأفريكان. وتتصدر قائمة اللحوم المشوية نقانق "البوريفورس" وشرائح لحم طيور النعام.

مقال رأي لألما التركماني. المقال يعكس وجهة نظر صاحبته ولا يعبر بالضرورة عن رأي CNN.

دبي٬ الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تمرد، وجنون، وعظمة، وعالم مختلف كلياً.. أشعر وكأني داخل أحد قصائد نزار قباني، حيث لا مكان للترتيب والانتظام، وكل ما قد نطمح إليه من مثالية في حياتنا التي أصبحت مملة إلى حد كبير.

هكذا رأيت أفريقيا.. عالم آخر فعلياً.. خيالي ومثالي بـ"لا مثاليته".. أين أنا؟ كل شيء هنا يبدو وكأنه وجد لمخلوقات أخرى، مخلوقات أكبر حجماً.. الأشجار، والورود، والجبال، والطرقات، والبيوت، وحتى الحشرات.. تلك التي تعتبر من أصغر الكائنات التي تجوب الأرض، يتخطى حجم الصغيرة منها حجم الكبيرة في عالمنا "الحقيقي."

قد يعجبك أيضاً.. هل هذه "أقدم" المدن الأفريقية لعيش الإثارة؟

بعد رحلة دامت قرابة العشر ساعات متجهة من دبي إلى كيب تاون، استقبلتني لائحة كبيرة في مطار المدينة الجنوبية الأقصى على اليابسة، كتب عليها "The Mother City" أي المدينة الأم، لقب المدينة الجنوب أفريقية. بجانبها، تقف صورة شامخة لرمز التحرر من العنصرية، نيلسون مانديلا. انطباع أول يذكرني بدمشق.. صور "القائد" في كل مكان، إلا أن الفرق هنا يكمن بين قائد صنع أمة يقدّرها أي شخص تطأ قدماه أرضها، وآخر قتل نصف شعب وشتت النصف الآخر. 

"ميامي" الأفريقية
إنها فعلاً مدينة السحر، والجمال، والطبيعة الخلابة، والنسيم العليل. أول محطة في رحلتي كانت "كامبس باي،" منطقة لُقبت بميامي الأفريقية لما تحمله من سحر الشواطئ، وروح المرح، والاسترخاء التي تتميز بها ميامي الأمريكية.

الجميع هنا يبدو وكأنه يعيش حياة خالية من الأحزان والهموم. رقص في الشوارع وغناء على أكشاك الطرقات ومطاعم كثيرة، وفنون يدوية، وبحر هائج، وكرة طائرة.. هذه هي الحياة! تفرض عليّ "كامبس باي" إحساساً بالتفاؤل الإيجابي، كما لو أنني اكتشفت أن هموم العالم بأجمعه ستنتهي هنا! وكيف لا تنتهي، وسكان هذه المنطقة يستيقظون على أجمل مناظر الطبيعة الخلابة، وصوت تلاطم أمواج البحر الساحر؟ 

الشعب هنا متعايش ومتفاهم مع بعضه البعض بشكل رائع، رغم اختلافاته الكثيرة، وخلفياته الثقافية المتنوعة، وتاريخ عانى منه الأمرّين. يدهشني سلوك السكان هنا، إذ من غير المستحب أبداً أن تشير إلى حادثة ما، وتلقي اللوم على فئة من الشعب دون الأخرى. النظام، والاحترام، والتصالح مع الذات والآخرين، كلها أمور مقدّسة عند الجميع، ما يجعلني أفكر باستمرار في بلدي، سوريا.. أتألم وسط حسرة وأسف واشمئزاز ومجموعة مشاعر متضاربة لا نهاية لها.. أكتفي هنا.

قد يهمك أيضاً.. التفرقة العنصرية تترك أثرها على العمارة أيضا في جنوب أفريقيا

أفكار عشوائية
أركب في "الباص الأحمر الكبير،" وأختار خط الحافلة "الأزرق" الذي يمر بالمناطق المحيطة بكيب تاون، لا وسط المدينة نفسها، من حدائق كريستنبوش النباتية ورحلة تيلفريك إلى أعلى جبل الطاولة الذي يحتضن المدينة، ثم رأس الرجاء الصالح حيث بقربه يلتقي المحيطان الأطلسي والهندي بينما تتناغم أسماك القرش على الخط الفاصل بينهما. يتوقف باص الرحلة السياحية فجأة، محطة "إيميزامو ييتو." هل ضلّ سائق الحافلة طريقه أم ماذا؟

منازل صفيح مكدسة، وطرقات ضيقة شبه معبدة، وأحبال متناثرة من الغسيل، جميعها تُكوّن مستوطنة "إيميزامو ييتو" العشوائية، والتي تأوي أكثر من ٣٣ ألف شخص على بقعة أرض لا تتخطى مساحتها الكيلومترين. ببنية تحتية شبه معدومة، ومرافق مياه ضعيفة، بنيت العشوائية هذه في أوائل تسعينيات القرن الماضي كمكان إقامة مؤقت لبعض سكان كيب تاون من الأشخاص السود البشرة، الذين هوجموا ومُنعوا من العيش في منطقة "هاوت باي" المجاورة. اليوم، لا يزال يعيش فيها الآلاف من الأشخاص الذين صنعوا منها "موطناً" يأويهم من صعوبات العيش وأسلوب الحياة الترف في مناطق أخرى. 

في "إيميزامو ييتو،" يوفر مرشدون سياحيون محليون جولات داخل العشوائية – مقابل أجر زهيد يُضاف إلى صندوق العشوائية – تسمح للسياح بزيارة السكان الذين حولوا بيوتهم المتواضعة إلى متاجر صغيرة، تعرض أعمالهم الحرفية اليدوية لكسب لقمة عيش تؤمن قوت يومهم. بابتسامة عريضة ووجه بشوش، يستقبلون هؤلاء، الغرباء من جميع أنحاء العالم. 

نعم.. هذه محطة سياحية حقيقية.. أسرح قليلاً. أفكر في عشوائيات دمشق المخبأة بعيداً عن الأنظار. أتخيّل لو أنها كانت محطة سياحية في أحد الأيام. مضحك فعلاً.. لا بل مضحك مبكي حالنا!

وأيضاً.. "جنة عدن" العذراء ..جوهرة مخبأة في قلب أفريقيا

رحلة من العمر
كيب تاون إيجابية. هذا ما استنتجته خلال رحلتي لتلك المدينة الغامضة المفعمة بالتاريخ والمستقبل معاً. بشعبها الطيب، وشوارعها المتنوعة، وسمائها الصافية، وبحرها الغاضب، وأشجارها المتمردة، وطرقاتها المتعرجة، وجبالها الشاهقة. عشقتها، بكل ما فيها. ويا ليتني لم أتركها، بل يا ليتني كنت منها، لشعرت حينها بفخر حقيقي لما صنعت المدينة من نفسها بعد اضطرابات مدّمرة. أغلق عيني وأتصور مستقبل بلدي..هل أفخر به مجدداً؟ هل تُتاح لي الفرصة لأعيش على أرضه رحلة من العمر؟ حلم يراودني في كل ثانية من حياتي.. أتمنى أن يصبح حقيقة يوماً ما.