دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- صوت ضجيج آلات طحن حبوب القهوة يملأ المكان.. ورائحة البن الداكن تكاد تعيدني إلى أحضان شرفة بيت العائلة الكبيرة، حيث راقبت جدّتي، لعدة سنوات، تجلس صباح كل يوم على الأرجوحة الكبيرة، وتسكب فنجاناً من القهوة الطازجة المغلية لجدّي، بينما يعلو صوت أم كلثوم في الخلفية وهي تغني "أمل حياتي..."
أعود لأتذكر أني لست هناك.. أنا هنا في مستودع كبير في المنطقة الصناعية بدبي، وقد حُوّل إلى محمصة بُن متخصصة في تحميص، وطحن، وصنع شتى أنواع القهوة عالية الجودة، لمجموعة من هواة مشروب الكافيين، الذين كثيراً ما يترددون إليه، حتى بات الجميع يعرفون بعضهم البعض.
يستقبلني عند دخولي مؤسس المحمصة، الشاب المصري كريم حسن، والذي تمكّن من معرفة أني زبونة جديدة، لحظة دخولي إلى المكان، الذي بعد عامين من افتتاحه فقط، بات يُصدّر أفضل أنواع البُن والقهوة إلى أكبر المقاهي، والمطاعم المحلية، والفنادق في الإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى تدريب طواقم العمل فيها ليُصبحوا من بين أفضل صانعي القهوة في المنطقة.
هذه تجربتي الأولى من نوعها، لزيارة محمصة "سيفين فورتشنز" وذلك على هامش تنظيم المحمصة لتجربة "601،" والتي سيتمكن خلالها 30 شخصاً "محظوظاً" - كل واحد منهم يمكن أن يصطحب صديقاً له - تذوق كوباً من القهوة الأغلى في العالم، والتي لا تتوفر في أي مكان بالشرق الأوسط سوى لدى المقهى التابع لحسن .
وكان قد استطاع حسن الحصول على حبوب قهوة "إيزميرالدا غيشا كانياس فيرديس" الطبيعية، والتي لا يوجد منها سوى 45 كيلوغراماً في العالم على حد قوله، خلال مزاد "بيست أوف باناما" المتخصص ببيع حبوب القهوة عالية الجودة، بعدما تنافست محمصته مع العديد من المحامص والمقاهي من عدة بلدان حول العالم، ليُثبت أن "سيفين فورتشونز" هي الأحق بها في منطقة الشرق الأوسط.
وحصلت خلال المزاد كل من المقاهي والمحامص الرابحة على كيلوغرام واحد من حبوب القهوة الثمينة، بناء على ميزات الجهة الرابحة، ومهنيتها وحرفيتها في مجال صنع القهوة.
ويقول حسن إن كيلوغراماً واحداً من حبوب القهوة لم تكن ستكفي سوى لحوالي 30 شخصاً بعد طحنها وإعدادها، إلّا أنه أراد فتح المجال لعدد أكبر من الأشخاص لتذوقها، ما دفعه إلى السماح لكل مشارك بتجربة "601" باصطحاب صديقاً له لمشاركته بكوب من القهوة.
وقد أُطلق اسم "601" على تجربة تذوق القهوة الأغلى في العالم، نسبة إلى السعر القياسي العالمي التي بيعت فيه القهوة بالمزاد، والذي بلغ 601 دولار في مقابل رطلاً واحداً، أي 4,855 درهماً للكيلوغرام الواحد.
يصطحبني آدريان، أحد صانعي القهوة الثمانية المختصين في "سيفين فورتشونز،" إلى بار القهوة الصغير، حيث يطحن لي حصّتي من حبوب القهوة النادرة، ويبدأ بصنع كوب القهوة يدوياً على طريقة "أمريكانو" أي بمزج البُن مع الماء الدافئ دون إضافة أي حليب.
أرشف رشفة. لا أحرق لساني! كيف؟ فأنا لطالما اعتدت على حرق لساني لدى تناول أول رشفة من القهوة الساخنة.. يتبين لي بعد الاستفسار أني قضيت حياتي وأنا أشرب القهوة بطريقة خاطئة. أتذكر قهوة جدتي المغلية.
يوضح لي حسن أن أكثر ما يؤثر على نجاح تجربة القهوة هو مدى استمتاعنا بها، مضيفاً: "يجب اتباع أساليب معينة ودقيقة تسمح لك الاستمتاع بكوب القهوة، أهمها هي حرارة القهوة. إذا اضطررت إلى ترك قهوتك لتبرد حتى تتناولها، فإن تجربتك تًصبح فاشلة تلقائياً."
أعود لأستمتع بتجربتي المميزة.. وهي عبارة عن مزيج من النكهات الحلوة والحامضة.. أشعر وكأني أشرب كوباً من القهوة "المنكّهة" بالتوت البري والكلمنتين وحبوب الكاكاو.. أين مرارة القهوة التي اعتدتها؟ لم أعتد يوماً على شرب قهوة حلوة، لماذا أضاف لي آدريان السكّر؟
أكتشف في تلك اللحظة أنه لم يضف لي ولا حبّة سكّر، وإنما يتمتع هذا النوع من حبوب القهوة بطعم حلو طبيعي، نسبة للتربة الحلوة التي زرعت فيها، وإلى طريقة التحميص الخفيفة التي لم تُجرّد الحبوب من جميع زيوتها الأصلية والطبيعية، ما ساعدها في المحافظة على طعمها السلس.
ويرى حسن أن "الكثير من الأشخاص يعتقدون أن القهوة يجب أن تكون مُرّة الطعم، ولكن في الحقيقة، القهوة المُرّة الطعم هي قهوة صنعت بطريقة خاطئة منذ لحظة قطف حبوبها وتحميصها. ولذا من الضروري جداً من أجل الاستمتاع بكوب قهوة لذيذة، أن نشعر بمذاق حبوب القهوة الحلوة الطبيعية دون الشعور بحاجة لإضافة أي محليات لها."
أعود إلى الوراء قليلاً في أفكاري، وتحديداً إلى أول تجربة لي مع القهوة، حيث كنت أحضر عزاء أحد الأقارب، وقُدّم لي فنجاناً صغيراً من القهوة العربية، لم أستطع رفضه بحجة اللباقة. لا زلت أتذكر طعم مرارته المحفور في ذاكرتي حتى يومي هذا.
في الحقيقة، أنا لا أمانع هذه المرارة، فالقهوة بأشكالها المختلفة وألوانها الداكنة لذيذة ومغرية مهما كان طعمها – إلى حد ما – كما أنها قد رافقتنا في الأحزان والأفراح وجميع حالاتنا الاجتماعية السعيدة والحزينة، حتى أن حسن استوحى اسم محمصته بأكملها "سيفين فورتشونز" أي "الحظوظ السبعة،" من تاريخ المجتمعات وعلاقتها بالقهوة، فحظوظه هنا، هي الحظوظ ذاتها التي لطالما بحثنا عنها في أسفل فناجين القهوة، والتي هي عادة قديمة جداً تترسخ في حضارات عدة، على رأسها العربية، والتركية، والشرق أوروبية أيضاً.
أما "السبعة،" فقد اختارها حسن نسبة لمكان تأسيس شركته الناشئة، أي دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تحضن سبع إمارات مختلفة، فضلاً عن رمزية الرقم "سبعة" في الحضارة العربية، على حد قوله.
أنهي كوب قهوتي الحلوة اللذيذة والثمينة جداً، وأضعه فارغاً على المنضدة بجانبي. أنظر إلى داخله، أراه نظيفاً كلياً، لا أثر لبُن القهوة الراسخ في أسفل الفنجان. أسرح قليلاً.. أراقب مجموعة من الأشخاص يتجمعون للاستماع إلى اختصاصي في القهوة وهو يشرح عن مصدر الحبوب ومكان زراعتها. أشعر براحة نفسية ما.. لا تزال القهوة هي التي تجمع الناس من مختلف الجنسيات في مستودع مهجور كبير، استطاع شاب لم يتخط الـ26 من عمره، تحويله إلى شيء أكبر بكثير من محمصة بُن اعتيادية تطحن مئات الأطنان من القهوة يومياً، وتتبع تاريخها ورحلتها "الداكنة" المتميزة.