تفاعلت قضية الفكاهي الفرنسي ديودوني مجددا، عندما أبلغت إدارة القناة الفرنسية الحكومية "فرنسا2" المذيع اللامع فريديريك تادييه وقف برنامجه المثير للجدل واستبداله ببرنامج آخر.
وعرف عن تادييه دعوته مفكرين وشخصيات ذات نفس فكري عميق، كثيرا ما شكلت آراؤهم محور نقاش في المجتمع على غرار المفكر الإسلامي طارق رمضان وألين سورال ومارك إدوارد ناب وكذلك الفكاهي ديودوني.
وهوجم تادييه مؤخرا من قبل الصحفي باتريك كوهين الذي "اتهمته" بكونه يفضل دعوة "عقول مريضة،" في إشارة إلى الأسماء المذكورة، مركزا على الفكاهي ديودوني المتهم بمعاداة السامية.
وعندما اهتز الشارع العربي والإسلامي من سنوات احتجاجا على الرسومات الكاريكاتورية المسيئة للرسول التي نشرتها صحيفة دانماركية، وأعادت نشرها الأسبوعية الفرنسية "شارلي إيبدو " تضامنا مع زميلهم الدانماركي ودفاعا عما أسموه حرية التعبير، اصطفت النخبة الفرنسية يمينها ويسارها، مثقفوها وصحفيوها مع الصحيفة الدانماركية ومع شارلي إيبدو، وقالوا إنها هذه هي فرنسا التي بنيت على المبادئ العلمانية وعلى حقوق الانسان وحرية التعبير التي لا حدود لها، ولم يهتم أحد لمشاعر المسلمين الذين رأوا في الرسومات وفي الموقف السياسي للبلدان الأوروبية وفرنسا تحديدا إهانة لهم ولدينهم ولهويتهم. لماذا اختلف تعامل فرنسا الدولة مع قضية الرسوم المسيئة للرسول الأكرم ومجرد حركة من فنان إفريقي؟--حدة حزام
ويا للمفارقة ، اليوم انتقلت الطبقة المثقفة الفرنسية من النقيض الى النقيض ، وهي "تترجم" هذا الممثل الفكاهي الفرنسي ذي الأصول الإفريقية "ديودوني امبالا امبالا "، وتؤيد منع عرضه الفكاهي الجديد " الجدار" في كافة المدن الفرنسية ، لأن وزير الداخلية "مانويل فالس" أراد ذلك واعتبرها معركته الشخصية التي سخّر لها كل إمكانيات الدولة ومؤسساتها لمنع هذا الرجل الأسود من قول كلمة ساخرة، لا تضر ولا تنفع أحدا، لكنها في المقابل كشفت على الوجه الحقيقي لفرنسا الديمقراطية وحقوق الإنسان وعرّت عورتها ، ومرّغت أنف " الماريان" رمز الجمهورية في الوحل، وكشفت عن مدى الانفصام في الشخصية الذي تعانيه إحدى اعرق الديمقراطيات في العالم.
ليست حرية التعبير وحدها من داسها قرار مجلس الدولة الفرنسي الصادر مؤخرا والمؤيد للحكم الصادر ضد ديودوني بمنعه من تقديم عرضه في كامل التراب الفرنسي ، بل استقلالية العدالة نفسها --حدة حزام من علقت على حبل المشنقة ، والحجة الحفاظ على الامن العام ، وهاهو قرار المنع الذي قالت عنه وزيرة العدل الفرنسية ذات الاصول الافريقية هي الاخرى ، " كريستين طوبيرا" انه قرار سياسي وليس له علاقة بالقضاء ، يطرح الاسئلة الكبرى ، يطرح على طاولة النقاش ،مسالة علاقة العدالة بالسياسة ، إذ ان ثلاث ساعات كانت كافية ليتخذ مجلس الدولة قرار المنع ، ساعات فقط بعد رفع دفاع المتهم الطعن في الحكم بالمنع امام محكمة " نانتير" ، ويطرح التساؤل المنطقي عن مدى الفارق بين ما تعلنه فرنسا للرأي العام حول احترامها بحرية الراي والتعبير ، وما تمارسه على ارض الواقع ، والنتيجة كانت صادمة ، حتى للمحكمة الاوربية لحقوق الانسان نفسها ، التي ادانت الجمهورية الفرنسية بغرامة قدرها 1000يورو لعدم احترامها للمادة السادسة (6) من الاتفاقيات الأوروبية المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية .
وهكذا يفتح هذا القرار باب جهنم على فرنسا، بل ويكشف عن الوجه الحقيقي لفرنسا، فهي لا تختلف عن أية جمهورية من جمهوريات الموز في العالم الثالث ، جمهورية لا تؤمن حتى بالمبادئ التي بنت عليها دولتها، بل وقادت من أجلها حروب.
ألم يهرع ساركوزي الرئيس الفرنسي السابق من سنتين لنجدة الشعب الليبي ويجر معه حلف الناتو ، حماية لليبيين من بطش القذافي ودعمهم في ثورتهم التي رفعت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان ؟ وللمفارقة مرة أخرى أن الطائرات الفرنسية ومعها نيران الناتو الصديقة قصفت الآلاف من الأطفال والنساء الأبرياء ، ومع ذلك لم تحرك المجزرة مشاعر المدافعين عن حقوق الإنسان، ولم تتحرك عندما أهين القذافي وقتل دون محاكمة وجرجر جثمانه على التراب وعرض ببشاعة أمام المتفرجين ليتعظوا .
معركة في فنجان ، علقت بعض الاطراف السياسية في فرنسا، وربطت وزيرة العدل الفرنسية السابقة ذات الأصول المغربية رشيدة داتي إنّ قضية "ديودوني" اختلقها وزير الداخلية مانويل فالس للتغطية على عجز حكومة الاشتراكيين في مواجهة المصاعب التي تتخبط فيها فرنسا في عهد هولاند وإخفاقاتها ، ونفس الرأي تشاركها فيه " مارين لوبن" زعيمة اليمين المتطرف.
وبينما الرئيس الاشتراكي "العادي" جدا فرانسوا هولاند ، غارق في غرامياته الجديدة وتتصارع الحسناوات من حوله وتتبادل التغريدات الوضيعة ، يأتي منع العرض الفكاهي لديودوني، والذي مهما كانت درجة تعرضه لليهود وللسخرية منهم ، لا يرقى الى ما يتعرض له العرب والمسلمين سواء في الاعلام أو في العروض المسرحية وفي الحياة العامة من إهانات ولا تحرك المدافعين على حقوق الإنسان، ليكشف مدى تغلغل اللوبي اليهودي في ثنايا الجمهورية الفرنسية، حتى أن فرانسوا هولاند نفسه أمر بألا يتساهلوا مع ديودوني .
إنه ديودوني الرجل الذي قزّم فرنسا والكابوس الذي يهز مضجعها ، وللمفارقة أن التلفزيون الاسرائيلي لا يرى مانعا في استضافة ديودوني ومحاورته من منطلق أن اسرائيل لا تمنع من يعارضها ويشكك في شرعيتها، حسب ما أعلنه منشط تلفزيوني اسرائيلي.
ماورد في المقال لا يعبّر عن وجهة نظر CNN وإنما يعكس فقط رأي كاتبته