هذا المقال بقلم محمد بن ساعو، باحث من جامعة سطيف 2 بالجزائر، ولا يعبّر عن وجهة نظر CNN.
--في خضم التحولات التي يشهدها المجتمع الجزائري، يظل سؤال الهوية سؤالا متجددًا، فمسألة الهوية تعود في كل مرة لتطرح نفسها للنقاش على مستويات عدّة، خاصة أن الإيديولوجيا والسياسة فرضتا هيمنتهما عليها.
وتجاوزًا للخطاب الإقصائي وأمام ضرورة إحياء عناصر هويتنا الجماعية والثقافية وبعثها، بعيدا عن التيارات التي تتصارع فتتبنى بعدًا هوياتيًا وتقصي الآخر، وبما أن البعد الأمازيغي أحد أهم عناصر الهوية الجزائرية إلى جانب الإسلام والعروبة، من الضروري التعامل معه كمُشترك بين جميع الجزائريين الأمازيغوفونيين والعربفونيين، لأن الإقصاء لا يُنْتج سوى الإقصاء والتطرّف. فالهوية الجزائرية مركبة، وبعدها الأمازيغي يستند إلى الهوية السياسية والثقافية، لأن "تمازغا" موطن الأمازيغ التاريخي، واللغة والثقافة والحضارة الأمازيغية هي جزء من هذه الهوية، ليشكّل دخول الإسلام–فيما بعد- تطورا بارزا في عناصر الهوية الأمازيغية، حيث امتزجت بالهوية الدينية.
إن الكثير من الخطابات الرائجة حول "البعد الأمازيغي" في الهوية الجزائرية، هي في حقيقتها خطابات مأزومة، لا تتسم بالعلمية والبراغماتية الوطنية، فتجدها تتراوح بين المعاداة والإقصاء والتخوين. وحتى تلك الخطابات التي تدّعي تبنيها لهذا البعد تبقى–غالبا- متعالية. لكن هذا لا يُلْغي وجود لون خطابي حكيم يحاول تجاوز الإقصاء والتعالي إلى نظرة أكثر عقلانية في مقاربته لموضوع الهوية الجزائرية، حيث أعطى للبعد الأمازيغي مكانه الطبيعي بين بقية الأبعاد، فحاول التأسيس لخطاب هوياتي يستجيب للتطلعات الاجتماعية والثقافية والفكرية والفنية للمجتمع الجزائري في إطار المقاربات التاريخية التي تبقى –في رأينا- الأقرب لفهم المسألة.
كرونولوجيا المسألة الأمازيغية.. سجل نضالي حافل
رغم سبقية الفن والأدب في التعريف بالمكون الأمازيغي، إلا أن تزايد أدوار المجتمع المدني"Société civil" في الجزائر، جعل بعض مؤسساته تتبنى القضية الأمازيغية، ما أنتج خطابا أمازيغيا ذو طبيعة مطلبية بالدرجة الأولى.
إن المتتبع لكرونولوجيا المطالب الأمازيغية يدرك التحولات التي مرّت، تماشيا مع المراحل التي اجتازتها البلاد، فالبداية كانت بمحاولة إبراز التنوع الهوياتي من منطلقات لاسياسية، غير أن الأزمة البربرية سنة 1949 التي كانت حركة انتصار الحريات الديمقراطية "M.T.L.D" مسرحا لها اعْتُبِرت مؤشرا عن بداية مرحلة نضالية لانتشال البعد الأمازيغي من دفينيته.
ما كان يُؤْمَل بعد الاستقلال أن تأخذ الأمازيغية مكانتها في الدولة الوطنية، لكن هذه الأخيرة بدأت تمارس سياسة التضييق على أشكال التنوع الثقافي، لتأتي أحداث الربيع الأمازيغي سنة 1980 وتضاف إلى سجل النضال من أجل القضية الأمازيغية.
يمكن إرجاع تجاهل السّلطة السياسية للبعد الأمازيغي بعد الاستقلال إلى عدم إدراكها لضرورة إرساء مناخ وفاقي وعدم إقرارها بتنوع وثراء مرجعيات التركيبة الإثنية والاجتماعية للجزائريين عموما، وهو مبني في غالبه على توجهاتها الإيديولوجية. هذا التجاهل والإقصاء لا ينطبق على السّلطة فحسب، فحتى بعض النّخب تعاملت –ولا تزال- سلبا مع البعد الأمازيغي.
رغم ما حققه الخطاب الأمازيغي ميدانيا، من خلال رضوخ الدولة لبعض مطالبه، حيث أسست المحافظة السامية للأمازيغية، وأدرجت اللغة الأمازيغية ضمن المنظومة التعليمية؛ ليتعزز ذلك بدسترتها لغة وطنية سنة 2002، ولغة رسمية في دستور 2016، إلا أن هذا الخطاب يبقى أمام ضرورة التجديد والتفتح أكثر وتبني استراتيجية تتماشى وخصائص المرحلة المقبلة.
آفاق النضال والخطاب الأمازيغي.. التنوع في إطار الوحدة
يبقى أمام الجماعات المطلبية وجمعيات المجتمع المدني بصفة عامة وكل المهتمين نشر الوعي بالبعد الأمازيغي العميق في الهوية الجزائرية وإبراز تعبيراته المتنوعة، فأمام تزايد قوة التيارات التفكيكية ذات الأبعاد الإثنية والدينية، وبروز النزعات الانفصالية، يجب أن نتعامل مع واقعنا وهويتنا ببراغماتية مُؤَسسة.
هناك من يعتبر أن النضال الهوياتي الأمازيغي أشرف على نهايته بعد دسترة ترسيم الأمازيغية، لكن الحقيقة أن القضية الأمازيغية مقبلة على مرحلة جديدة لدعم المكاسب التي حققتها، من خلال الإسهام في ترجمة النصوص الدستورية في الواقع، ولعل التحدي الأكبر في هذا الإطار هو تعميم تدريس اللغة الأمازيغية، إضافة إلى تدوين الموروث الشفهي، وإخراج الثقافة الأمازيغية من الشفاهية والفولكلورية -التي حاولوا طَبْعَها بها- إلى عالم النشر والأكاديمية.
من الضروري أن تتجه الجهود لحماية التراث الأمازيغي وتفسير دلالاته العميقة، وتجاوز مظاهر السلفية الماضوية، نحو إبراز وعي الأمة بروحها وشخصيتها من خلال تراثها. إلى جانب تفعيل الحوار والتواصل والتعاون بين الأطراف التي تعمل لترقية أبعاد الهوية الجزائرية.
ونظرا لما تزخر به الثقافة الأمازيغية من قيم ثقافية وروحية واجتماعية ووطنية واقتصادية، يبدوا من مظاهر الوعي بهويتنا والتخطيط لمستقبلنا استحضار هذه القيم في جزائر اليوم خاصة تلك المرتبطة بالوسطية والواقعية والتضامن...، وهي قيّم أشد ما نكون بحاجتها في ظل رياح العولمة والجو الاقتصادي المضطرب. وبالتالي تشجيع انفتاح الثقافة الأمازيغية على السياسات الإنمائية.
ثم إن النضال الأمازيغي بكل تمظهراته يجب أن يساير التطورات التكنولوجية من خلال استغلال المنابر الإعلامية الجديدة، وانشاء بوابات إلكترونية باللغات المختلفة، مع رقمنة التراث الأمازيغي ودعم انتاج وتوزيع المواد السمعية البصرية.
وفي الأخير نقول إن أزمة الهوية في الجزائر نتاج الأوضاع والمشاكل الاجتماعية والصراعات الإيديولوجية والثقافية، والتمايز الذي يتملك بعض الأمازيغ كشعور ليس تمايزا عن الهوية الجزائرية بمختلف أبعادها، إنما هو شعور بالتميز عن المنظومة الهوياتية الرسمية، وبذلك فإن إبراز وترقية البعد الأمازيغي يسهم في بناء مجتمع تسوده ثقافة التعاون والتآزر.
ويبقى على الخطاب الأمازيغي تصحيح المفاهيم والصور المشوهة عن حقيقة المسألة الأمازيغية، وإرساء ثقافة ووعي هوياتي وطني، ومن الضروري أن يتطور هذا الخطاب بناءً على التراكم الذي حققه، ونعتقد أن محور النضال المقبل هو توسيع دائرة النشاط وعدم التقوقع في منطقة محدودة.