هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
لم تعرف فرنسا منذ ثورة "الحرية والإخاء والمساواة" عنفا كالذي تشهده الآن. دهشة العالم من هول ما رأى بعد أسبوع من دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قيام جيش أوروبي وتقريعه الوطنيين في أوروبا والعالم على مرأى من نظيره الأمريكي، دونالد ترامب، تحولت هذه الدهشة إلى صدمة من حجم التطاول الهمجي على المرافق السيادية والرموز الحضارية بما فيها المعالم الباريسية الأيقونية كقوس النصر.
لعل من أكثر الأمور خطورة، ما تداولته وكالات الأنباء من فيديوهات ظهرت فيه أعلام دول عربية وهتافات "دينية مسيسة" تكشف عن جملة من الحقائق التي لا سبيل بعد الآن لطمسها. إن مشاركة الشباب الفرنسي من ذوي أصول عربية مسلمة أو شرق أوسطية وفيهم من هو فرنسي من الجيل الثاني من المهاجرين ومنهم مقيمون شرعيون وغير شرعيين بمن فيهم من فرّ حديثا من بلاد "العرب أوطاني" تحديدا من ضحايا "الربيع العربي" المشؤوم الذي -ولسخرية القدر- دعمه سلف الرئيس الحالي، نيكولا ساركوزي.
قد يهمك ايضا: ماكرون: ما حدث في باريس لا علاقة له بالتعبير السلمي
"التكبير" كلمة شأنها لو يعلمون عظيم، ذلك النداء الخالد للصلاة والخشوع والرحمة، حولته الجماعات الإرهابية والنظم القمعية من نداء رباني إيماني إلى شعار سياسي حماسي لغايات التعبئة والتحشيد والتهييج. ليس سراً أن داعش ومعها النصرة وقبلها القاعدة وأخواتها الأشرار من طالبان إلى بوكو حرام وغيرها، جعلوا لكلمة "الله أكبر" شكلاً من أشكال "الاقتران الشرطي" بعمل إرهابي ما. لهذا يعلم دعاة حوار الأديان والحضارات أن أكثر من أساء للإسلام هم تلك الفئة الإرهابية القليلة جداً التي بدويّ أفعالها المشينة تغطي على حقائق صارخة من أهمها أن أكثر ضحايا مطلقي تلك الصيحات هم من المسلمين أنفسهم وبخاصة أولئك الذين فروا بأسرهم إلى "الغرب" طلبا للنجاة من خناجر الإرهاب وسيوفه.
إن تورط تلك الفئة "الملثمة" و"السافرة" بأعمال التخريب الحالية في الضواحي الباريسية، بعثوا الحياة مجدداً وعلى نحو أكثر عنفواناً بالتيارات الداعية إلى وقف "أسلمة" أوروبا والتمييز بين المهاجرين وحتى السواح على أسس دينية. بولندا قالتها صراحة على لسان رئيس وزرائها ماتيوش مورافيتسكي: لا نريد مهاجرين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. في تصريحات توضيحية لاحقة صادرة عنه وعن تيارات وطنية محافظة أخرى، قال بلغة أقل دبلوماسية: لا نريد مهاجرين مسلمين، لاحظوا لم يقولوا إسلاميين بل هكذا وبصراحة مسلمين!
أين المشكلة إذن؟ في الحالة الفرنسية تسقط الاتهامات والتبريرات كافة التي يسوقها الانفعاليون والاعتذاريون. ما من بلاد أو مجتمعات منفتحة وتعددية كفرنسا. علينا أن نقر بوجود مشكلة بالتربية الدينية والوطنية، المسألة لم تعد تلك الأسطوانة المشروخة من الحديث عن برامج الإعالة والرعاية والتوظيف والإدماج والانصهار.
كذلك: الحكومة الفرنسية تتعهد بـ"رد حازم" على الاحتجاجات العنيفة
لو تحلى أولئك بأبسط درجات الوعي واللباقة لأدركوا أنهم متساوون بجرائم العنصرية مع من يطلقون عليهم هذه التهمة جزافا. مع انتشار السترات الصفراء كحركة احتجاجية في دول أوروبية أخرى كهولندا وإيطاليا وبلجيكا، تكمن مخاطر لحاق الجاليات "المسلمة" بتلك الموجة الفرنسية، خاصة بلجيكا، فتحل بذلك كارثة محققة تطيح بمنطق دعاة فتح الحدود من المتحذلقين الواهمين بما يليق سياسيا وإعلاميا من الكلام المنمق الذي لا يزيد إلا من استفحال الخطر.
بصراحة، اليمين قادم وبقوة، بخاصة في دول المهجر، المأزق ليس مأزق ماكرون وحده. كما وأن تشفي البعض بنشر صور باريس وهي تحترق جنبا إلى جنب دمشق أو أي عاصمة من عواصم "الربيع العربي"، سيعزز التيارات الوطنية في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تدعو صراحة إلى تشديد القبضة الأمنية وسد فاتورة "المستأسدين" بقوى الخارج على دولهم باسم حقوق التعبير والاحتجاج. فها هي فرنسا التي فرضت الطوارئ بسبب ذئاب داعش المنفردة تستعد لفرضها مجددا بسبب السترات الصفراء وكشفها للمستور!