هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
ما هذا الهلع الذي كشفه تفشي فيروس كورونا المستجد في دول العالم؟ كيف نصل إلى هذا الحد من العجز والارتباك وقد نجونا عبر عقدين من سلالات وطفرات سابقة بدءً من السارس والميرس، مرورا بإنفلونزا الطيور والخنازير وانتهاء بزيكا وإيبولا؟
أحاول في هذه المقالة تلمس إجابات لا أقول شافية لكنها على الأقل تضيء على ما قد يكون مادة صالحة للبحث والتأمل. السؤال الكبير والبسيط في آن واحد هو: أين الخلل؟ ما الخطأ الذي وقعنا فيه جميعا؟ هذا الفيروس "التاجي" أطاح بتيجان وصولجان دول متباينة النظم والقوة السياسية والاقتصادية في بلاد تسودها ثقافات ونظم روحية وأخلاقية مختلفة.
في تقديري لما رشح من معلومات وليس انطباعات حتى الآن، أن العلة ليست بقوة فتك الفيروس وإنما بهشاشة مناعتنا.
المناعة والمنعة أمر ذاتي المنشأ. ومنذ المحنة التي تعرض لها عالمنا في الألفية الماضية وتفشي مرض نقص المناعة المكتسبة المعروف اختصارا بالإيدز، ما زالت الكشوفات الطبية تؤكد الحقيقة التاريخية للإنسان ككائن حي قادر على حماية نفسه بما أوتي من وسائل دفاعية داخلية قبل أن تكون خارجية، قوامها القدرة على تحصين البدن من الأعداء الخارجيين وتخليص نفسه بنفسه من سموم ما يتسلل إليه من مواد سامة سواء بفعل سوء الخيارات الغذائية أو جراء جور الإنسان على الطبيعة في ممارسات التلوث أو الاستغلال المفرط والمنهك للموارد الطبيعية.
بعيدا عن نظرية المؤامرة التي حاولت بعض الماكينات الدعائية الصينية والإيرانية الترويج لها، فإن الكارثة كان ربما من الممكن تفادي وقوعها أو على الأقل منع تفشيها لو لم تعمل السلطات الصينية على كتمان الإصابات الأولى في مقاطعة ووهان.
وهنا وقعنا في الخطأ الثاني القاتل عن سبق إصرار. نعلم جميعا مدى جورنا على البيئة وعلى بؤس خياراتنا الغذائية وعاداتنا الصحية، لكن كتمان وقوع إصابات على هذا النحو من الخطورة لا عذر فيه. لقد أدار كثير من دول العالم حكومات وشعوبا بمن في ذلك المثقفون والمؤثرون، أداروا وجههم عن نظم شمولية مركزية قمعية بالضرورة، اعتقادا واهما منهم بأن قصة النجاح الاقتصادية الكبيرة للصين تشفع لها خطاياها الناتجة عن قمع الحريات. صحيح أن الزعيم الطالبي الذي تحدى الدبابة في ساحة تيانانمين في بكين عام ١٩٨٩ قد غاب عن المشهد بعد تلك الصورة الأيقونية، لكن آلاف الضحايا من معارضي الحزب الشيوعي الحاكم، غيبهم الموت أو السجن أو المنفى. ما عادت الحريات الصحافية في هذه الحالة مسألة تعني فقط المعنيين بالحريات وإنما صارت مسألة حياة أو موت على مستوى العالم كله. كتمان بكين للأمر والتنكيل بمن "أفشوا" السر دفع ومازال العالم يدفع ثمنه ضحايا باتوا يحصون بالآلاف في أقل من ثلاثة أشهر على رصد أول حالة بووهان.
الخطأ الثالث ولعله الأكثر حساسية هو التغاضي الخطر لبعض الخائفين من الاتهام بعدم احترام ثقافات الآخرين على ما لا يقبله منطق من وجهة النظر العلمية. الحكاية كلها -كما يشاع- بدأت من سوق للمأكولات البحرية وحساء الوطاويط! من حق أي شعب في العالم أن يشكل مطبخه الشعبي كما يريد -ففي مطبخنا الشرق أوسطي ما قد يكون صادما لدى كثير من الشعوب- كأكل كل شيء في الخرفان مثلا - لكن من حق الناس أيضا التحذير من مخاطر ما ثبت ضرره مخبريا. فلمن يحتسي شوربة الوطواط نقول دون حرج: تلك كائنات دماؤها مشبعة بالجراثيم والفيروسات القاتلة.
والمسألة لا تقتصر على الأكل والشرب، فثمة عادات ومعتقدات وطقوس لا تقل خطورة وفتكا قام بتعريتها هذا الفيروس اللعين. فرغم حرص المتنورين من قادة الأديان كافة على حث المؤمنين باتباع التعليمات والإرشادات الصادرة عن الجهات المختصة وبكل انضباط وحزم، خرج علينا فيديو عبر منصات التواصل الاجتماعي لشخص يلعق سياجا لمزار "تبركا" واستهزاء بالداعين إلى الابتعاد عن التجمعات والأماكن العامة المزدحمة.
خلاصنا بحسن تشخيص أمراضنا، تعاملنا بحزم مع مصدر العلة، وتوفير البيئة الطاردة للأمراض والجاذبة للصحة وحب الحياة..