هذا المقال بقلم طارق عثمان، كاتب ومعلق سياسي، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
أوروبا منقسمة حول نجاح چو بايدن في الانتخابات الأمريكية. من ناحية أغلب حكومات دول أوروبا الغربية ترى انفراجة في العلاقة مع أمريكا، بعد اربع سنوات من التوتر مع إدارة دونالد ترامب. لكن من ناحية أخرى، الكثير من دول وسط وشرق أوروبا، حيث هناك حكومات يمينية (وبعضها متحالف مع أقصى اليمين) قلقة من توجهات بايدن ومن معه في الحزب الديمقراطي، خاصة وأن تلك الحكومات كانت على نفس الموجة الفكرية لإدارة ترامب ومن معه في الحزب الجمهوري.
لكن بغض النظر عن شخص رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، هناك 4 أسباب تدفع العلاقة الأمريكية-الأوروبية إلى لحظة صعبة.
أولاً، أوروبا بدأت تفقد مركزيتها في استراتيجية الأمن الأمريكية.. وذلك نابع من تقديرات أمريكية أن أوروبا لا تواجة مخاطر كبرى.
في الرؤية الأمريكية، صحيح أن روسيا حققت انتصارات في القوقاز وزادت من تواجدها في الشرق الأوسط في العقدين الماضيين، إلا أنها لا تشكل أي تهديد حقيقي لأوروبا. والواقع أن الجانب الوحيد الذي يمكن لروسيا به تهديد أوروبا هو الطاقة: أي امداداتها من الغاز. لكن قدرات روسيا هنا محددة، لأننا بدأنا نرى نهايات عصر البترول والغاز وصعود الطاقة البديلة. كما أن روسيا معتمدة مالياً بشكل كبير على مبيعات طاقتها لأوروبا.
هناك رأي (في عدد من الدول الأوروبية الكبرى) يرى في الجماعات الإسلامية العنيفة تهديداً جاداً لاوروبا. لكن الرؤية الأمريكية تعتبر هذا الأمر (وملف الإرهاب كله الآن) مشكلة اجتماعية وثقافية، ثَبُت (في تجربة الولايات المتحدة في العشرين سنة الماضية) أنها قابلة للاحتواء.
لذلك في التصور الأمريكي، أوروبا لا تواجه مخاطر في المستقبل المنظور تستدعي تفعيل الالتزام الأمريكي (منذ نهاية الحرب العالمية الثانية) بالدفاع عنها.
وذلك يأخذنا للسبب الثاني.. وهو أن أمريكا الآن تريد التزاماً أوروبياً بمساعدتها في مواجهتها مع الصين.
كلمة المواجهة هنا لا تعني صراعاً عسكرياً، ولكن استراتيجي: في الوجود والنفوذ في آسيا (وهناك التجمعات الإنسانية الأكبر في العالم، وبالذات في طبقات وسطى ومن ثم أسواق سوف تصبح مهولة الحجم)، كما في الجوانب الاقتصادية والثقافية. ذلك أن الصين بدأت بالفعل في محاولة انتاج فِكْر وتعليم وأخبار وتحليلات وأدب وفن موجه للعالم، وليس فقط لمحيطها الثقافي في شرق آسيا. وذلك مهم في الرؤية الامريكية، لأن التأثير الفكري والثقافي والعلمي في كل أنحاء العالم كان واحداً من أهم عناصر النجاح الأمريكي في الحرب الباردة مع الاتحاد السوڤيتي (منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينات من القرن العشرين إلى سقوط الدولة السوڤيتية في أول التسعينات). ثم كان من أهم أُسس السيادة الأمريكية على العالم من نهاية الحرب الباردة الى الآن.
لذلك فإن ما تطلبه أمريكا من أوروبا ليس عسكريا، بل اقتصاديا وعلميا بالدرجة الأولى. ولعل الإصرار الأمريكي أن تمنع أوروبا أكبر شركات التكنولوجيا والاتصالات الصينية من المشاركة في بناء شبكات الجيل الخامس (5G) من الاتصالات في كل القارة الأوروبية نموذج لما هو قادم من مطالب أمريكية للتحدي الصيني وطرق مواجهته.
والمشكلة هنا، أن أوروبا تريد استمرارية التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة (وهو قبل كل شيء، مبني على فكرة أن الولايات المتحدة وأوروبا تمثلا "الغرب"، وهو انتماء وهوية وحضارة)، لكن أوروبا، في الوقت نفسه، لا تريد أن تكون طرفاً في مواجهه مع الصين. ذلك أن أوروبا تدرك أن الاستثمارات الصينية والسوق هناك – وربما قريباً، التكنولوجيا الصينية – ضروريون للنمو في أوروبا ولاستمرارية الرخاء في القارة.
أوروبا اذن في موقف صعب: كيف تتعامل مع المطالب الأمريكية بدون أن تتخذ موقفاً مواجهاً للصين يكون له تبعات كبرى؟
هناك سبب ثالث – عسكري - في اللحظة الصعبة في العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا.
بالرغم من السرديات التي استخدمها الرئيس دونالد ترامب في كلامه حول حلف شمال الاطلنطي (الناتو)، وما أثارته من تساؤلات حول مستقبل الحلف، إلا أن الناتو يبقى واحداً من أهم وسائل الولايات المتحدة لاستخدام القوة العسكرية. والمهم هنا أن عدداً من أهم قواعد الناتو توجد في أوروبا.. لكن هناك خلاف أوروبي حول علاقتها بالحلف.
من ناحية، هناك دول، أهمها ألمانيا، ترى أن الناتو أثبت على مدى عقود كثيرة، نجاحاً كاملاً في الدفاع عن أوروبا وتكوين رادع ضد أي تهديد للقارة. لكن من ناحية أخرى، هناك دول، أهمها فرنسا، ترى أن الحلف قد أدى دوره، والآن لابد لأوروبا أن تأخذ السيادة المطلقة في القرار المتعلق بالدفاع عنها. وفي الرؤية الفرنسية، فان ذلك مرتبط بقدرة الاتحاد الأوروبي على احداث نوع من التوازن الاستراتيجي مع العمالقة (الولايات المتحدة والصين).
هذا الخلاف في الرأي ما زال مكتوماً، ولكنه جاد، لأنه حول موضوع في غاية الأهمية (الدفاع عن أوروبا)، ولأنه واصل الى تصور تلك الدول لمستقبل الاتحاد الأوروبي نفسه. والناحيتان ستُعقدان العلاقة مع الولايات المتحدة.
السبب الرابع للحظة الصعبة متعلق بالعقلية وبالتوجه الفكري هذه الأيام.
أمريكا – سواء الحزبان الكبيران، أو كل مؤسسات القرار – تدرك أنها في بداية مواجهة كبرى مع الصين.. كما أن الولايات المتحدة تدرك أنها تدخل هذه المواجهة وهناك تآكل في قوتها (وفي داخل مجتمعها)، على عكس الحال في نهاية الاربعينات (عندما دخلت أمريكا الحرب الباردة)، ووقتها كانت تشعر بثقة مهولة في قوتها وقدراتها.. ولذلك فإن الولايات المتحدة الآن في حالة توتر وتحفز.
على الجانب الأخر، أوروبا أبعد ما تكون عن تلك العقلية. منذ عقود وأوروبا (خاصة مجتمعاتها الثرية في الشمال الغربي) قد تعودت على درجات عالية جداً من الرفاهية والرخاء، جعلت هناك احتياج (في عمق العقل الأوروبي الآن) لفكرة السلم وقلق شديد من احتماليات الصراع (أي صراع).
بالإضافة الى ذلك، فان التغيُرات الاقتصادية والتكنولوجية التي يمر بها العالم اليوم تحمل معها مخاطر لاوروبا، خاصه قي قدرتها على الحفاظ على مستويات المعيشة شديدة الرفاهية التي تعودت عليها مجتمعاتها الثرية. كما ان أوروبا تدرك أن المخاوف الاقتصادية وراء صعود أقصى اليمين (وهو تهديد للمشروع الأوروبي برمته).
أوروبا إذن قلقة ومترددة. وما بين التردد الأوروبي والتحفز الأمريكي تكمن مصاعب قادمة في العلاقة بين الحليفين.
هذه النقاط الأربعة واضحة للطرفين. لكن كثيراً ما تكون أسباب المشاكل في العلاقات أقوى من القلق من تداعياتها. لذلك غالباً سنرى العلاقة الأمريكية-الأوروبية تمر بلحظة صعبة.