رأي.. طارق عثمان يكتب لـCNN: الملكية المصرية وناصر والعالم العربي.. لحظة القمة (٤)
في الذكرى السبعين لسقوط الملكية المصرية وبداية المشروع الناصري، الكاتب والمعلق السياسي طارق عثمان يكتب سلسلة جديدة لـCNN بالعربية عن تأثيرهما على العالم العربي. والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
مغري الوقوع في النوستالجيا.. لكنه أيضًا خطر، لأن النوستالجيا تأخذ العقل بعيدًا عن وقائع التاريخ وتدخله في تشابكات التصورات، وبعض التصورات أوهام. لكن مع الوعي بمخاطر النوستالجيا، أتصور أن العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين كانتا مرحلة القمة في كل حكم أسرة محمد علي.
مصر وقتها أغنى دولة في الشرق من شبه الجزيرة العربية الى شواطئ المحيط الأطلسي مرورًا بأغلب إفريقيا. والغنى هنا مطلق كما هو نسبي، بمعنى أن الوضع الاقتصادي المصري وقتها قوي جدًا بمعيار الطلب الكبير على صادراتها (وأهمها وقتها القطن)، ومعه في المقابل، محدودية الاستيراد بحكم قلة الاستهلاك النابع وقتها من عدد السكان المتناسب، ووجود أغلبهم في الريف حيث كانت الحياة ما زالت شديدة البعد عن تلك في المدن.
ثراء مصر النسبي وقتها نابع من أن كل من حولها كانوا وقتها يمرون بمشاكل سياسية واقتصادية - سواء في شبه الجزيرة العربية، أو في الشام، أو شمالي إفريقيا، أو في أغلب السواحل الشمالية في شرق البحر الأبيض المتوسط. لذلك، بالنظر إلى أوضاع كل جيرانها، كانت مصر وقتها شديدة الثراء.
وهذا يوصلنا للسبب الثاني في روعة العشرينات والثلاثينات للملكية المصرية، ذلك أن المجتمع المصري وقتها كان قد استوعب موجات من الهجرات من كل الشرق، ومن عدد من دول أوروبا المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كما من اليهود ومن عدد من دول أوروبا الشرقية، جعلت منه في تلك الفترة من أكثر المجتمعات في العالم تعددية من ناحية الثقافات الموجودة على أرضه.
تلك التعددية وسعت من قدرة الاقتصاد المصري على استيعاب تطورات كانت تحدث وقتها في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وسعت أيضًا من قدرة العديد من الشركات المصرية على دخول أسواق مختلفة في المنطقة، ومع ووراء ذلك، وسعت من حجم المواهب الموجودة وقتها في المجتمع، بما في ذلك داخل الجهاز الإداري للدولة.
لكن التأثير الأوضح لتلك التعددية ظهر في الثقافة والفن، حيث بدأت في مصر - على يد شوام ويهود وأوروبيين استوطنوا مصر قبل عقود، وأصبحوا مصريين - أكبر حركات في كل أنحاء الشرق في الترجمة والنشر، ثم في الصحافة والمسرح، ثم في الموسيقى الحديثة، ثم في الأدب المتأثر بالنماذج الغربية، وأخيرًا في السينما.
كل هذا الثراء الاقتصادي والثقافي والفني، والسبب الذي وراءه الثراء الاجتماعي، أوصل مصر إلى تطور سياسي. كان طبيعيًا أن تتطور السياسة لتعبر عن الليبرالية المصرية المتفتحة وقتها. التعبير كان من خلال دستور مصري في 1923، كان الأول في كل المنطقة الذي يستحق عن حق كلمة دستور. والملفت أن عملية التفكير في مواد الدستور وفي صياغته كانتا في زخم فكري ورُقي لا يبتعدان عما حدث في أهم الديمقراطيات الغربية في لحظات كتابة دساتيرها. وكان أن الدستور مهد لوجود برلمان جاء من خلال انتخابات يمكن وصفها بالحرة والشاملة لكل التيارات السياسية في البلد وقتها. بالطبع لم تكن انتخابات ممتازة، ذلك أن حجم الأمية في مصر وقتها، بالإضافة إلى تحكم - وأحيانا تَجَبُر - الرأسمالية المصرية، خاصة في دلتا النيل، قلل من حجم التمثيل السياسي الحقيقي في البلد. لكن بالرغم من هذه المشاكل - وتلك وقتها موجودة في أغلب مجتمعات العالم، بما في ذلك عدد من بلدان أوروبا - استطاع ذلك البرلمان أن يشكل حكومات متعاقبة كانت فعلًا مسؤولة أمام الناخبين.
ذلك الوضع السياسي - مع وجود مشاكل وانتقاصات وبالطبع مع الاحتلال البريطاني - أرسى لأكثر من عقدين من الزمن وضعًا سياسيًا كان فيه القصر الملكي القوة الأولى في السياسة المصرية، ولكنه لم يكن القوة الوحيدة. كانت هناك أحزاب حقيقية ذات وجود وصاحبة ولاءات في طبقات مختلفة من المجتمع المصري. كان هناك مجتمع مدني متنوع وقوي. وكان هناك احترام جاد لفكرة ولتطبيق العمل السياسي في إطار برلماني.
كل ذلك لم يؤد إلى ديمقراطية بالشكل المعروف في مجتمعات غربية مختلفة (على أنواع الديمقراطية). لكن كان في مصر وقتها نوع متقدم من الليبرالية السياسية، أعطت المجتمع المصري وقتها - بتنوعه (على الأقل في المدن) طمأنينة أن هناك سيادة للقانون، أن هناك حرية تعبير، وأن هناك نوعا من التوازن يمنع طغيان قوة واحدة على أيٍ من المكونات المختلفة لمصر وقتها. تلك الليبرالية السياسية كانت شديدة الإغراء للثروات والمواهب. وعليه استمرت مصر، طيلة هذين العقدين وحتى نهايات الأربعينات، مركز الثقل الاقتصادي والسياسي وقوة الجذب الكبرى في كل الشرق.
مع التنوع والليبرالية الحقة كان هناك جمال - سواء تطورات ما أسسه إسماعيل باشا من رونق ورقي للفضاء العام في القاهرة والإسكندرية - أو جمال في التعامل الاجتماعي أُرسيَ على نتاج تفاعل ثقافات مختلفة كان أغلبها متأثرًا ومتابعًا للثقافة الأوروبية في أرقى صورها - أو جمال في الإنتاج الفني، وقد كان ذلك طبيعيًا حيث إن الفكر الحر، في إطار حر، في مجتمع حر، هو بداية الطريق نحو الإبداع والخلق.
كان هناك أيضًا تساهل أتاحته الليبرالية من انسياق حسي، فكانت ليالي القاهرة والإسكندرية ساحرة، ممتلئة بالغنا والغنى والغنج، سواءً ما غلا أو ما غمس.
كل ذلك جعل أسرة محمد علي على قمة هرم اجتماعي-سياسي بدا وقتها، ولأسباب حقيقية، ثابتًا متينًا - كما كانت معه مصر، في علوها أو في لهوها، جميلة، جذابة، جاذبة، لا تسعى وراء أحد، بل يقصدها كل من حولها.
من ناحية التموضع السياسي كانت الملكية المصرية أغنى وأقدم ممن حولها. وقتها كانت الدولة السعودية في الجزيرة في مرحلة التكوين، وكانت الدولة الهاشمية في الشام تحاول تثبيت أركانها. في أقصى المغرب كانت المملكة المغربية ثابتة على أسس بُنيت على مر قرون، لكنها كانت وقتها بعيدة عن المشرق لا تقربها وسائل إعلام، بل يفصلها حكم فرنسي بدا حازمًا في فصله السياسي والثقافي بين ما يحكمه وبين بقية المنطقة. حتى في أوروبا كانت الملكيات إما تتهاوى أو تمر بلحظات خطر. تلك كانت الفترة التي سقطت فيها الدولة العثمانية وامبراطورية الهابسبرج في النمسا والمجر والقيصرية الروسية وغيرها. لذلك في كل المنطقة من الخليج إلى أقصى المغرب مرورًا تقريبًا بكل سواحل البحر الأبيض المتوسط، كانت الملكية المصرية موضع الثقل.
هذه الأسباب مجتمعة أعطت الملكية المصرية وضعًا خاصًا، لأن مصر وقتها كانت صاحبة وضع خاص. كانت عن حق درة الشرق.
لكن لحظة القمة تلك كانت قصيرة، ذلك أن الأربعينات وبدايات الخمسينات من القرن العشرين أتت على مصر برياح شديدة القوة تلاقت مع غبار كان يتراكم في الأنحاء البعيدة في دلتا النيل، وفي أطراف القاهرة والإسكندرية. والذي حدث أن تلاقي الرياح مع الغبار وضع الملكية المصرية، أمام تحديات لم تستطع معها مقاومة، كما سنرى في المقال القادم من هذه السلسلة.