في الذكرى السبعين لسقوط الملكية المصرية وبداية المشروع الناصري، الكاتب والمعلق السياسي طارق عثمان يكتب سلسلة جديدة لـCNN بالعربية عن تأثيرهما على العالم العربي. والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
محمد علي أسس أول دولة حديثة في المنطقة من الخليج الى شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي. الحداثة كانت في جيش متطور بتسليح مميكن وله خلفية لوجستية وراءه. الحداثة كانت أيضًا في بدايات صناعة، في تطوير للزراعة من خلال محاصيل جديدة وأساليب ري لم تعرفها مصر من قبل، ومن خلال بدايات تعليم منظم خارج المؤسسات الدينية، بالإضافة إلى هيكل إداري مختلف تمامًا عما كان سائدًا وقت المماليك.
لكن تلك الدولة لم تكن لا مصرية ولا عثمانية وبالطبع لم تكن عربية.
محمد علي كان لديه رأي غير جيد في الكثير مما رآه في مصر - وبعض القناعات التي وصل إليها الباشا عن المصريين لم تكن ممتلئة بالمديح. لكن ربما الأهم أنه لم يكن لديه اهتمام بالتراث المصري الذي سبق دخول العثمانيين إلى مصر في القرن السادس عشر. ولعله رأى في الكثير من تاريخ مصر قبل العثمانيين جزءًا من تاريخ الصراعات السياسية التي شكلت عصور الحكم الأموي والعباسي وما تبعهما من عائلات حكمت الدول ذات الغالبية الإسلامية في كل الشرق. لذلك فإن محمد علي لم يأخذ أي شيء تقريبًا على الإطلاق من التراث المصري في تأسيس وتطوير دولته.
كما أن دولة محمد علي لم تكن عثمانية، بالرغم من أنه هو كان نتاج للمجتمع والدولة العثمانية. محمد علي شعر بضعف الدولة العثمانية ورأى في مصر - في لحظة دخول نابليون وحكم الفرنسيين للبلد - عدم قدرة العثمانيين على مواجهة الغرب. لذلك، ورغم أن الباشا أخذ بعضا من التراث العثماني وأدخله في مكونات دولته في مصر، إلا أنه أراد الدولة التي يبنيها في مصر وقتها قوية، مؤسسة على قواعد حديثة وليس على ما ذهبت الأيام بقوته وتركته ضعيفًا أمام أعدائه لا يقدر إلا على تذكر أيام قوة ولت. لذلك فإن دولة محمد علي كانت عثمانية في القليل من الشكل، لكنها بعيدة تمامًا عن العثمانية في الجوهر.
بالطبع دولة محمد علي لم تكن لها أي علاقة بالعروبة التي كانت وقتها ثقافة فضفاضة بلا مشروع سياسي محدد، وذات مواصفات اجتماعية بدت وقتها متصلة إلى حد بعيد بتراث الجزيرة العربية والعراق والشام، وليس أبعد من ذلك.
لذلك فإن سؤال الهوية لم يكن مما أثار اهتمام محمد علي. بالعكس ربما رأى الباشا بذكائه الحاد، أن مثل ذلك السؤال قد يثير مشاكل، لأن دولته كانت في أساسها مشروع عائلي بُنىَ على طموح شخصي، وليس على إطار تمثيل أهل وأصحاب الأرض التي يبني عليها الدولة.
لكن مشكلة الهوية ذابت في سطوع نجاح الدولة. ذلك أن دولة محمد علي كانت بأي مقياس وقتها سنوات ضوئية أبعد - من ناحية التقدم - من أي دولة أخرى في كل المحيط الجغرافي حولها. وقد كان أن النجاح ألهب حماس كثيرين أرادوا نقل التجربة، أو على الأقل جوانب منها، إلى بلدانهم. لكن، مع الإعجاب والإلهام كان هناك خوف: من احتمالية توسع دولة محمد علي خارج حدود مصر.
وهو بالضبط ما حدث. بعد وضع أسس دولة حديثة وبعد مرحلة تثبيت، خرج إبراهيم باشا (ابن محمد علي) في حملات مختلفة - جنوبًا في السودان لتوسيع حكم العائلة باتجاه منابع النيل، وشرقًا في الحجاز لوقف الحركة الوهابية السعودية من الاتجاه ناحية الأماكن الإسلامية المقدسة (والحجاز وقتها نظريًا تحت الحكم العثماني)، ثم في شرق البحر الأبيض المتوسط، تنفيذًا لطلب من السلطان العثماني لقمع الثورة اليونانية، وقد كانت وقتها حادة في رفضها للحكم التركي الإسلامي، وكان ذلك مما ألهب الخيال الأوروبي وسبب صداعًا للبلاط العثماني.
إبراهيم نجح في كل تلك الحملات، وذلك الذي دفعه إلى الحملة الكبرى والأهم في حياته، نحو الشام.
سيطرة إبراهيم السريعة على الشام لم تكن لب نجاحه هناك. ما أحدثه من تغيرات سياسية هو ما حفر اسمه كمُشَكِل الشام الحديث. إبراهيم ربط جنوب الشام بشماله، وتلك استراتيجية فضلها المماليك الأوائل العظام ورفضها العثمانيون - وذلك طبيعي، لأن ربط جنوب الشام بشماله يخلق قوة في الإقليم، وذلك دعم لأي دولة ثابتة في المنطقة ومشكلة لأي دولة تحتل تلك الأرض. إبراهيم أدخل خدمات حديثة، خاصة في الصحة والتعليم والأمن، في كل مدن الشام الرئيسية، أعقبها تغيرات في التنظيم الإداري لتلك المدن. وقد كانت تلك التغيرات نهاية مجموعات تكاد تكون عصابية تحكمت في عدد من أكبر مدن الشام (مثل دمشق) لعقود. لكن التغير الأهم الذي أحدثته حملة إبراهيم كان في تقوية عناصر سياسية محلية (مثل الأمير بشير الشهابي في جبل لبنان) والتي أدت إلى بدايات ظهور لبنان وسوريا في شكليهما الحديثين.
في تلك اللحظة في التاريخ - في وسط ونهايات العقد الرابع من القرن التاسع عشر - كادت دولة محمد علي في مصر أن تتحول إلى إمبراطورية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
ولحظتها بدا الزمن والقدر مواتيان، لأن القوة الحاكمة في شرق البحر الأبيض المتوسط لأربعة قرون قبل تلك اللحظة - الدولة العثمانية - كانت في انحدار سياسي واقتصادي (أثبت الزمن أنه غير قابل للإصلاح ومؤد لموت بطئ). ولا شك أن محمد علي وإبراهيم رأيا ذلك الضعف وأرادا وراثة الإمبراطورية التي خرج مشروعهم من عبائتها. والحقيقة أن عددًا من أهم رجالات الدولة العثمانية رأوا في إبراهيم احتمالية سلطان جديد يمكن أن يعيد حيوية ما قد أرهقه المرض والضعف. وبالفعل، تقدمت جيوش إبراهيم باتجاه إسطنبول، وهزمت الجيش العثماني في معركتين، وإذا بدولة الخلافة الإسلامية والحاكمة لتقريبًا كل الشرق على وشك السقوط في يد محمد علي وإبراهيم باشا.
تلك الاحتمالية اثارت مخاوف عدد من الدول الغربية، أهمها بريطانيا، ولكن أيضًا النمسا (إمبراطورية عائلة الهابسبرج) وروسيا (وهي وقتها عدو قديم للعثمانيين ولكنها فضلت عدو ضعيف مريض على عدو محتمل - دولة محمد علي - تبدو في عز الشباب) وحتى فرنسا (الصديق القديم لأسرة محمد علي، رأى بعض مفكريها أن ضرب الانجليز لمشروع محمد علي وإبراهيم قد يفتح فرصًا لفرنسا في الشرق).
وبالفعل، تدخلت بريطانيا، ومعها دعم سياسي أوروبي شبه كامل، وأوقفت زحف إبراهيم نحو إسطنبول، ثم ضربت جيوشه في شمال الشام، ثم أخيرًا أجبرته على الخروج من جنوب الشام.
الضربة كانت موجعة لإبراهيم. رجع الرجل إلى مصر وقد انهارت احتمالية الإمبراطورية وانهار معها جزء كبير من عنفوان القائد. ولعل الهزيمة قد أتت على إرادة الحياة، فكان أن مات إبراهيم في تقريبا اللحظة التاريخية نفسها التي مات فيها أبوه.
لكن المهم للمنطقة أن انهيار احتمالية إمبراطورية لأسرة محمد علي أنهى معه فكرة وجود دولة قوية تفرض سيادتها على كل شرق البحر الأبيض المتوسط. وحيث إن ذلك حدث في مرحلة ضعف عثماني شديد، فإن المنطقة كلها - وما بعدها في آسيا وإفريقيا - بدأت تكون مفتوحة أمام مطامع أوروبية رأت مصالحها تتطلب وجودا مباشرا في البحر الأبيض وصولًا إلى الأحمر ثم إلى المحيطين الهندي والهادي. وبالفعل فإن سقوط مشروع الإمبراطورية لأسرة محمد علي فتح الباب أمام بدايات التدخل العسكري المباشر الأوروبي في كل الشرق - وهو موضوع المقال القادم من السلسلة.