العراق يجذب السياح الدوليين.. كيف وجدوا "مهد الحضارة"؟
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- عندما جلس تومي دريسكيل، وهو صانع محتوى على منصة "يوتيوب" من هاواي، لتناول وجبة فطور عراقي تقليدي من "الكاهي" و"القيمر" (المعجنات والقشدة) خارج مقهى صغير وسط مدينة بغداد، لم يسعه إلا وصف التجربة بالسريالية.
وقال دريسكيل، المعروف باسم "Dude Abroad" على "يوتيوب"، لـ CNN بعد زيارته للعراق في عام 2024: "لقد كانت تجربة هادئة إلى حد ما. ومع ذلك، فإن طاولتي كانت تطل على مبنى مثقوب بالرصاص عبر الشارع. [كانت] ندبة تركتها فترة أكثر قتامة في منطقة [تذكرت] أنه لم يكن مناسبا الوقوف فيها لمدة خمس دقائق حتى على جانب الطريق أثناء الحرب".
ورغم التوترات المتصاعدة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، فإن دريسكيل يعد واحدا من بين عدد متزايد من المسافرين الأجانب الذين يزورون العراق مع انتقال شركات السياحة الدولية إلى البلاد.
وباعتبار العراق موطناً لثروة من المعالم السياحية، التي تشمل آثار بابل القديمة، وأهوار بلاد ما بين النهرين، وجبال كردستان العراق كثيراً ما يطلق على العراق لقب "مهد الحضارة" نظرا لأن السومريين القدماء قاموا فيها بتطوير مفهوم العجلة، وأول أنظمة الكتابة في العالم، وأنشأوا المراكز الحضرية منذ عام 5300 قبل الميلاد.
وتسعى البلاد لاجتذاب عشاق المغامرة، إذ أكد وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي أن البلاد آمنة خلال فعاليات معرض سوق السفر العالمي لعام 2023، في الوقت الذي تضع فيه بغداد نصب عينيها أن تصبح عاصمة السياحة العربية في عام 2025.
وأشار دريسكيل إلى أنه نشأ على متابعة أخبار الحرب في العراق، إلا أن تحذيرات السفر التي أطلقتها بلاده كان لها تأثير عكسي، إذ أدت إلى إثارة الفضول لديه.
"لقد كانت العراق على رادار وجهات السفر التي أرغب بزيارتها لسنوات"، هكذا قال دريسكيل، الذي قادته رحلته التي استمرت 12 يومًا مع شركة "بالعطلة"، وهي شركة سياحة عراقية، إلى أسواق عمرها قرون في بغداد ومزارات شيعية مقدّسة في مدينة كربلاء، على بعد ساعة جنوبًا.
وتابع: "لطالما كنت منجذبا إلى الوجهات غير المألوفة، وخاصة تلك التي تحذّر وزارة الخارجية الأمريكية مواطنيها من السفر إليها. وبصرف النظر عن الديناميكيات السياسية، فقد وجدت باستمرار إنسانية مشتركة تجمع بيننا. في مخيلتي، افترضت أن العراق سيكون على الأرجح مماثلا".
وقد شهد العراق فترة من الاستقرار النسبي منذ هزيمة تنظيم "داعش" في عام 2017، رغم من أن القوات الأمريكية تواصل تنفيذ الضربات الجوية والغارات على معاقل التنظيم، بما في ذلك عملية مشتركة مع القوات العراقية في أغسطس/ آب 2024 التي شهدت مقتل 14 من مقاتلي داعش. ومنذ عام 2021، انتعشت السياحة عندما بدأت الحكومة الاتحادية العراقية في تقديم تأشيرات عند الوصول إلى مطار بغداد الدولي لـ 30 جنسية، بما في ذلك مواطني الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وبحسب موقع "كردستان كرونيكل"، حددت هيئة السياحة التابعة لحكومة إقليم كردستان لنفسها هدفًا يتمثّل في استقبال 20 مليون زائر سنويًا بحلول عام 2030. ومن المرجح أن يكون معظم هؤلاء من السكان المحليين وفقًا لشبكة "رووداو" الإعلامية التي تتخذ من كردستان مقرًا لها، فإن ربع السياح في عام 2023 كانوا زوارًا دوليين. وفي عام 2023، تجاوزت المنطقة حاجز السبعة ملايين، وفقًا لأرقام حكومية.
ويشير منظمو الرحلات إلى أنهم يشهدون طفرة في الطلب على زيارة العراق. وقد أطلقت شركة "Lupine Travel"، وهي شركة بريطانية متخصصة في وجهات أقل شهرة، جولات إلى كردستان العراق في عام 2014 والعراق في عام 2018.
وقال روبرت كايل مولينا، مدير الرحلات لدى شركة Lupine Travel، لـ CNN: "لقد شهدنا زيادة ملحوظة للغاية في الطلب على السفر إلى العراق. خاصة إلى أماكن مثل بغداد وبابل والموصل. كل عام يتضاعف الطلب. وقبل عامين قمنا برحلة واحدة، وفي العام الماضي رحلتان وهذا العام أربع رحلات. والوقت مناسب للزيارة".
وأكد مولينا أن إدارة المخاطر والتخفيف منها يعد "جزء رئيسيا" مما يفعله منظمو الرحلات. وتتواصل الشركة مع شبكة من جهات الاتصال المحلية ومستشاري الأمن في البلدان التي يزورونها، وإعداد مسارات إخلاء محتملة عن طريق البر أو الجو مسبقًا، ومراقبة المواقف الأمنية المستمرة أثناء الجولات.
وقد أسس علي المخزومي، وهو من سكان بغداد، شركة "بالعطلة" في عام 2016 لإحياء السياحة الثقافية إلى المواقع التراثية بعدما أدرك أن هذه المواقع لا تحظى بالاهتمام الذي تستحقه، رغم أن العراق موطن لآلاف السنين من التاريخ البشري.
وقال لـ CNN: "كل عام نشهد زيارة المزيد من الناس إلى العراق أكثر من ذي قبل. الطلب في ازدياد بالتأكيد، مع ذلك معظم الناس لا يعرفون حتى أنه باستطاعتهم السفر إلى هنا".
وأشار المخزومي إلى أن العراق يشهد استثمارًا غير مسبوق في الفنادق والبنية التحتية للسياحة. ومع ذلك، يرى أن التحدي الرئيسي الذي تواجهه صناعة السياحة الناشئة يتمثل في الصورة السلبية عن البلاد. وقال: "انتهت الحرب منذ سنوات وما زلنا نسمع عن العراق فقط عندما يرتبط الأمر بالصراعات". "لكن العراق، أرض ألف ليلة وليلة، لديه أكثر من ألف قصة ليحكيها! يجب تجربة هذه القصص من خلال عيش الرحلة واكتشاف العراق الحقيقي".
جولات للنساء فقط
قد يبدو العراق وجهة غير محتملة للجولات النسائية، لكن جانيت نيونهام، وهي صانعة محتوى ورائدة أعمال من مدينة كورك بأيرلندا، تقول عكس ذلك. وقد زارت العراق لأول مرة في أغسطس/ آب عام 2021 وأخبرت CNN أنها لم تتخيل أبدًا أن يصبح العراق أحد وجهات السفر المفضلة لديها. وقد أحبت البلاد كثيرًا لدرجة أنها تدير الآن جولات نسائية هناك من خلال شركتها "Janet’s Journeys".
وتعترف أنها في البداية كانت متوترة بعد تجارب أقل إيجابية كمسافرة أنثى في بعض البلدان، وقد فوجئت عندما وجدت نفسها في مهرجان موسيقي مع طلاب جامعيين خلال يومها الأول في بغداد.
وقالت: "كان العراق مختلفًا. كان مذهلا بمعنى الكلمة. انتهى بنا الأمر حتى في مدينة ملاهي، داخل العربات الاصطدامية، وكان الجميع يضحكون. كان علي أن أقرص نفسي لأذكّر نفسي أنني ما زلت في بغداد!"
وصفت نيونهام جولتها الجماعية النسائية الأولى في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2021 بأنها "رحلة مليئة بالمغامرات".
وقالت: "شعرنا وكأننا أول مجموعة سياحية نسائية على الإطلاق تسافر في العراق، وقد أحدثنا ضجة كبيرة".
مع ذلك، لم تكن الرحلة خالية من التحديات. ففي كربلاء، إحدى أقدس المدن لدى المذهب الشيعي، كان إلزاميا على النساء تغطية أنفسهن من الرأس إلى أخمص القدمين (باستثناء الوجه)، وكان على نيونهام أن تذكّر المجموعة بأنه من المحظور وضع أحمر الشفاه أو طلاء الأظافر في الأضرحة المقدسة.
وفي الموصل، التي كانت تحت سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابية حتى عام 2017، كانت هناك مخاوف أمنية، بما في ذلك التهديد بالقنابل غير المنفجرة.
وذكرت نيونهام أن مرشديها المحليين يقدمون إحاطات أمنية مفصّلة أثناء الرحلات. وفي الموصل، يزور الضيوف الجمعيات الخيرية المحلية المشاركة في عملية إزالة الألغام، التي تشرح خطورة القنابل غير المنفجرة وتقدّم تحديثات حول المناطق التي خضعت للتطهير من المدينة.
وقالت: "بصراحة، لا أعتقد أن السفر في مجموعة من النساء أكثر خطورة من السفر في مجموعة من الرجال بالنسبة للأجانب. في كلتا الحالتين، سوف تجذب الكثير من الانتباه. بصفتي امرأة شقراء طويلة القامة، أشعر وكأنني بارزة، لكن هذا لا يعني أن الناس سيطلبون التقاط مئات الصور الشخصية معي".
وتعد العراق الآن هي واحدة من أكثر جولاتها طلبا. وأضافت: "إنها وجهة يعود إليها الناس، ويشعرون وكأنهم خاضوا تجربة غيرت حياتهم.
وتابعت: "كل عام، يتواصل معنا المزيد من الأشخاص للسفر إلى العراق، ويبدو أن الطلب يتزايد رغم الأحداث الحالية المدمرة في الشرق الأوسط وفلسطين".