هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
منذ أن قامت الحكومة مؤخرا برفع أسعار الطاقة، بدا وكأن عقارب الساعة قد توقفت فأصبح لا يخلو حديث من نقاش وضجر بسبب ارتفاع الأسعار. لكن من ناحية أخرى، يؤكد مسؤولو الحكومة أن التقشف الصارم لخفض عجز الموازنة هو الخيار الوحيد. وإن اتفقنا أن الوضع الاقتصادي متفاقم وأنه لا يمكن السكوت عنه، فإن منهج التعامل معه قد يأخذ أشكالاً عدة، لكل منها وجاهته، ومناقشة هذه الأشكال ضرورة ولا يجب اعتبار من يطالب بإعادة النظر في التقشف الصارم ضعيفاً أو عديم الوطنية.
تواجه الحكومة أزمة اقتصادية طاحنة تجلت في العام الماضي (٢٠١٣/٢٠١٤)، فعلى الرغم من المساعدات الخليجية السخية التي تخطت ٢٠ مليار دولار إلا أن عجز الموازنة من المتوقع أن يصل من ١١% إلى١٢% من الناتج المحلي، وهو ما يعني أن العجز الحقيقي قبل المساعدات قارب ١٥% . وكان من المتوقع أن يصل العجز في العام الجديد (٢٠١٤/٢٠١٥) إلى ١٥% لو لم يتم تبني إصلاحات اقتصادية قاسية، والتي باتت ضرورة قصوى في ظل انحسار المساعدات الخليجية.
وإذا نظرنا إلى موازنة العام المالي الجديد، نجد أنها تتبنى منهجاً تقشفياً صارماً يعمل على تخفيض النفقات لخفض عجز الموازنة واحتواء الدين العام. وتأمل الحكومة الوصول للانضباط المالي الذي يجعلها مؤهلة لقرض صندوق النقد، مما يزيد من الثقة في الاقتصاد المصري، ويؤدي إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية وتحريك عجلة الاقتصاد مرة أخرى. لكن يأتي هذا التوجه بعلامات استفهام حيث أن معالجة الركود بالتقشف، عادة ما يؤدي إلى زيادة في الركود، وهو ما يتوقع حدوثه في اقتصاد نما بمقدار اثنين في المائة العام المالي الماضي، على الرغم من السياسة التوسعية آنذاك. كما أن تدفق الاستثمارات الأجنبية قد يتأخر بسبب عدم استقرار الوضع السياسي والأمني. بالإضافة لذلك، سيكون لارتفاع الأسعار أثر سلبي على الفئات الأكثر فقراً في المجتمع، والتي لن تتحمل موجات التقشف المستقبلية، وإن كانت بعض الدول الأوروبية مثل اليونان قد مضت في هذا المسار بنجاح إلى حد كبير بعد الأزمة المالية العالمية، إلا أنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار الفارق الكبير في مستويات الدخل ومعدلات الفقر والحالة السياسية بين مصر ومثل هذه الدول.
ويؤكد من يدعم هذا التقشف الصارم، بأنه لا توجد بدائل واقعية لذلك ويشير إلى عدم جدوى التوجه التوسعي في معالجة الأزمة، والذي يتعمد على زيادة الإنفاق والاستثمار الحكومي لتحريك الأسواق، وزيادة الطلب المحلي مما يؤدي إلى زيادة معدلات النمو وإيرادات الموازنة، وبالتالي خفض العجز في النهاية. ولعل السبب في ذلك الاعتراض يعود إلى حاجة الحكومة لأموال طائلة لتمويل هذا التوجه وكذلك القدرة على تحمل تفاقم عجز الموازنة والدين الداخلي مرحلياً، حتى يعاود الاقتصاد نموه، وقد انتهجت أمريكا هذا التوجه لمواجهة الأزمة المالية العالمية، حيث استطاعت تمويل هذه السياسة التوسعية بالتمادي في خلق النقود واستخدامها لشراء الدين الحكومي وتمويل عجز الموازنة، وهو أمر قد لا تستطيع دولة مثل مصر تبنيه، للفارق الكبير بين قوة الدولار مقابل الجنيه.
وإذا كان التوسع المفرط غير ملائم لمصر، فإن التقشف الصارم لا يختلف عنه في ذلك ومن المهم البحث عن بديل أنسب. ويبرز في هذا السياق إمكانية تبني برنامج تقشف تدريجي ومتوازن، يتعامل مع جانبي الموازنة، من حيث خفض الإنفاق المهدر وكذلك زيادة الإيرادات من الطبقات القادرة على تحمل ذلك. فهناك جزء ليس بالقليل من الدعم يذهب لغير مستحقيه، ويمكن خفضه من خلال استخدام نظام موجه، مثل كروت البنزين التي يمكن استخدامها لتحميل خفض الدعم على الأغنياء ومرتفعي الاستهلاك. كما يمكن للحكومة رفع أسعار السولار لكن بشكل تدريجي وبالتوازي مع زيادة قدرة شبكة النقل العام لتقليل حدة رفع الأسعار. ويمكن للحكومة كذلك اتباع سياسة استهدافية برفع أسعار الكهرباء والغاز الطبيعي بشكل متفاوت بحسب المناطق الجغرافية ومستويات الاستهلاك لضمان التوزيع النسبي لفاتورة رفع الدعم بما تستطيع كل فئة تحمله. بالإضافة لذلك تستطيع الحكومة الحفاظ على مستويات متوسطة من الإنفاق الاجتماعي والاستثماري لتحفيز الطلب المحلي وهو ما ينعكس على مستويات دخل الأفراد وأرباح الشركات والذي تستطيع الحكومة جني ثماره بتوسيع القاعدة الضريبية وتصاعدية الضرائب.
قد يكون هذا التوجه أنسب للحالة المصرية اقتصادياً واجتماعياً، والجدير بالذكر أن المشروع الأول للموازنة كان يستهدف عجزاً بلغ ١٢%، ويعمل بشكل تدريجي على خفض النفقات وزيادة الإيرادات، إلا أن المشروع الثاني الذي تم إقراره جاء أكثر صرامة ليخفض العجز إلى عشرة في المائة بين عشية وضحاها، معللا بأن هذا المستوى يعتبر آمنا إلا أن حاجز العشرة في المائة المزعوم هو مجرد حاجز نفسي ليس له تلك الأهمية الكبيرة. فهذه المستويات للعجز (التي تتراوح بين عشرة وبين 12%) مرتفعة على كل حال لكن ما يهم هو سياسة الحكومة في الخروج من الأزمة، والأثر المتوقع لهذه السياسة اقتصادياً واجتماعياً، وهو ما ينظر إليه الممولون مثل صندوق النقد.
الخلاصة تتمثل بأن وضع الاقتصاد الحرج، يجعل من الصعب الاستمرار على نفس النهج، لكن التقشف الصارم ليس الحل الوحيد كما أنه ليس الحل الأمثل، وقد يكون تبني توجه تقشفي متوازن، يهدف لخفض المصروفات المهدرة، ورفع الإيرادات المتاحة تدريجياً، هو التوجه الأنسب في المرحلة القادمة وعلى المجتمع مناقشته بموضوعية.