هذا المقال بقلم عمرو عادلي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
أصدرت الحكومة المصرية حزمة من القرارات برفع أسعار المحروقات، وذلك بهدف تخفيض مبلغ الدعم الموجه للوقود في الموازنة العامة للدولة، وطبقا للخطة الحكومية، فالمستهدف في السنة المالية الجارية، هو تخفيض الدعم بمقدار 40 إلى 50 مليار جنيه مصري، وقد ترتب على الإجراءات الأخيرة زيادات في أسعار منتجات كالبنزين والديزل (السولار) والغاز الطبيعي بما يقارب الضعف، على نحو أثار الكثير من التخوفات حول الآثار التضخمية لهذه القرارات، خاصة وأن الديزل، ويستوعب حوالي نصف إجمالي دعم المحروقات، يدخل في إنتاج وتوزيع أغلب السلع والخدمات، وبدأت الآثار التضخمية في الظهور بالفعل في تكلفة المواصلات، وعلى الرغم من أن ثمة اتفاقا واسعا بين خبراء المالية والاقتصاد على أن برنامج دعم الوقود في مصر، غير قابل للاستمرار على صورته، خاصة مع تحول مصر إلى مستورد صاف للنفط منذ 2006، ومعاناة البلاد من أزمة طاقة كبرى في السنوات القليلة الماضية، مع وصول فاتورة الدعم إلى حوالي 20 في المائة من الإنفاق العام، أو ما يوازي 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن ثمة خلافا في الرأي حول توقيت رفع الدعم والتكلفة الاقتصادية والاجتماعية التي قد تنجم عن هذا، خاصة وأن الاقتصاد المصري يعاني من انخفاض في معدلات النمو منذ ثورة يناير/كانون ثاني عام 2011، وارتفاع في البطالة وتراجع في معدلات الاستثمار المحلي والأجنبي بما يضعه في موضع قريب من حالة الركود الاقتصادي.
ويذهب المعارضون لخطوات رفع الأسعار في الوقت الحالي، إلى أن رفع أسعار الوقود في خضم حالة من الركود، قد يدفع بالاقتصاد إلى الركود التضخمي الذي ترتفع فيه الأسعار مع ضعف معدلات النمو، ويرى هؤلاء أن الحكومة المصرية تتعامل مع قضية العجز في الموازنة، ومن ثم الدعم، من منطلق اقتصادي كلاسيكي منشغل فحسب بالعجز الرقمي، دونما نظر إلى أثر الطلب الحكومي العام على النمو الاقتصادي، ويحذر هؤلاء من أن الإجراءات التقشفية الجاري اتخاذها، ستؤثر بالسلب على فرص التعافي الاقتصادي، وستعمق من الركود بما يتناقض تماما مع الخطط الاقتصادية، التي تهدف الحكومة نفسها إلى اتباعها لرفع معدلات النمو والتشغيل، والتي ترتهن بها إلى حد كبير شرعية نظام المشير عبد الفتاح السيسي، القائمة على وعود باستعادة الاستقرار واستئناف النمو الاقتصادي.
فعلام تعول الحكومة المصرية إذن لإنقاذ الاقتصاد المصري بينما هي شارعة في إجراءات تقشفية ذات أثر سلبي قد يجمع بين الركود والتضخم؟
تقوم رؤية الفريق المالي في مصر على الجمع بين نقيضين، الأول هو إصلاح الخلل الهيكلي في موازنة الدولة المصرية من خلال خفض الإنفاق، خاصة في بند الدعم مع زيادة الإيرادات الضريبية في السنوات الخمس القادمة بما يخفض من العجز، ومن الدين العام، ومن ثم يخفف من الطلب الحكومي على موارد الجهاز المصرفي، وهو أمر إن تحقق سيكون له انعكاس إيجابي على مد الائتمان للقطاع الخاص من أجل تمويل استثمارات، بعدما تحولت الحكومة المصرية في العقد الأخير لأكبر مقترض من الجهاز المصرفي لتمويل العجز المتزايد، على نحو رفع من أسعار الفائدة، وخفض بشكل ملموس من فرص تمويل أنشطة القطاعات غير الحكومية. ويرى الفريق المالي أن هذه الإجراءات التقشفية الهادفة لإصلاح الخلل المالي، سيجري تعويضها من خلال تدفقات نقدية خليجية، قادمة من الإمارات والسعودية خاصة، في صورة استثمارات ترفع من معدلات الطلب الكلي، وتزيد من ثم من التشغيل ومن معدلات النمو، وتكسر دورة الركود التي وقع فيها الاقتصاد المصري منذ يناير/كانون ثاني عام 2011.
وقد تلقت مصر بالفعل ما يناهز 20 مليار دولار منذ يونيو/حزيران 2013 من بلدان الخليج، ذهب أغلبها في دعم العجز المتزايد في الموازنة، خاصة لتوفير الوقود المدعم، ولم يكن لهذه التدفقات أثر يذكر على فرص التعافي الاقتصادي، كونها قد خصصت لدعم المصروفات الجارية الحكومية، ويرى الفريق المالي الصانع للسياسات الاقتصادية حاليا في مصر، أنه لا فرصة لاستعادة النمو بدون إعادة توجيه هذه التدفقات الدولارية من الخليج بعيدا عن سد العجز الحكومي، إلى قطاعات استثمارية في مشروعات كبرى تولد فرص عمل، وهو ما يبدو أنه محل اتفاق من الشركاء الخليجيين أنفسهم الذين يربطون دورهم المستقبلي بإصلاح أوجه الخلل الهيكلي في مالية الدولة في مصر.
ومن هنا فإن الخطة الحكومية المصرية ترمي إلى أمرين ـ يبدوان متناقضين ظاهريا ـ هو إجراءات تقشف على مدى السنوات القادمة تخفض من العجز الحكومي وتقلل من حجم الدين العام وخدمته، ولكن دون التأثير على الطلب الكلي بإطلاق حزم تحفيز من أموال الخليج تذهب مباشرة للاقتصاد، وإن مرت على هيئات حكومية كتلك التابعة للقوات المسلحة كما رأينا في مشروع المليون وحدة سكنية. إن الخطة تبدو شبيهة بتلك التي تم تبنيها في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، عندما أقدمت الحكومة المصرية آنذاك على إصلاحات هيكلية عميقة باستخدام التدفقات النقدية الضخمة التي حصلت عليها من الخليج، وطبقا لاتفاق "نادي باريس" نظير اشتراكها في حرب الخليج الثانية، وقد أدت هذه الإجراءات بالفعل إلى تخفيض العجز، إلا أنها صوحبت بسنوات من الركود، خاصة مع عدم القدرة على زيادة الصادرات للخارج، وهو ما لا يبدو أن النظام السياسي الجديد في مصر بقادر على تحمل عواقبه في المرحلة الراهنة، ومن هنا فإن كلمة السر في استعادة النمو الاقتصادي، وفي إصلاح الخلل الهيكلي في مالية الدولة، هي الأثر المنتظر لتدفقات استثمارية خليجية ضخمة منتظرة في السنوات القادمة، ومدى قناعة المستثمرين المحليين والأجانب بأن مصر تتجه نحو استقرار سياسي يبرر ضخ المزيد من الاستثمارات في الاقتصاد.