محمود عبد الفضيل يكتب.. "فوضى الإحصاءات والتحليلات الاقتصادية"

اقتصاد
نشر
7 دقائق قراءة
محمود عبد الفضيل يكتب.. "فوضى الإحصاءات والتحليلات الاقتصادية"
Credit: Richard Heathcote/Getty Images)

هذا المقال بقلم محمود عبد الفضيل، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

انتشرت خلال السنوات الأخيرة تقارير وتحليلات إقتصادية تتحدث عن حجم النشاط الاقتصادي الذي تقوم به القوات المسلحة، أو ما يسمى عرفاً "اقتصاد الجيش"، وكذلك حجم النشاط الاقتصادي في إطار ما يسمى "بالقطاع غير الرسمي" في الاقتصاد المصري. وفي الحالتين قدر البعض أن كلا من الإقتصاديين الفرعيين يتراوح حجمه ما بين 40 إلى 60 %. وإذا أخذنا بتقديرات الحد الأدنى، فإن مجموع الأنشطة الإقتصادية التى تقوم بها القوات المسلحة أو التى يتضمنها القطاع "غير الرسمي" يصل إلى نحو 80 % من الناتج المحلى الإجمالي. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يكون نصيب القطاع "الرسمي المدني" بما يشمل من أنشطة زراعية وصناعية وتجارية وخدمية؟ وهذا يوضح النظرة الجزئية للأمور دون الأخذ فى الإعتبار علاقات الترابط والتفاعل بين الأنشطة الاقتصادية المختلفة.

وبالنسبة للأنشطة الاقتصادية التي تخضع لإشراف القوات المسلحة فهي تتكون من شقين: المشروعات التي تغطي فروع النشاط المختلفة التى تنتج سلع غذائية أو سلع وسيطة أو سلع معمرة من ناحية، أو أعمال المقاولات التى تقوم بها الإدارة الهندسية للقوات المسلحة والتي يتغير حجمها من سنة لأخرى. ولتقدير حجم هذا الإقتصاد الفرعي لابد من توافر ميزانيات الشركات والوحدات الإنتاجية فى القطاع المنتج للسلع والخدمات وتقدير حجم أعمال المقاولات بعد إستبعاد حجم التعاقدات من الباطن مع القطاع الخاص. والحساب الصحيح يقتضي تحديد القيم المضافة المتولدة فى هذه الأنشطة وعدم الخلط بينها وبين رؤوس الأموال المستثمرة أو إجمالى الإنفاق العام على هذه المشروعات والأعمال، الأمر الذي يؤدي إلى كثير من المبالغات.

وكذلك من المعروف أن جانباً هاماً من النشاط الاقتصادي الكلي في المجتمع ليس مسجلاً. إذ أن الأنشطة الإقتصادية المسجلة فى الحسابات القومية الرسمية لا تشمل أنشطة القطاع "غير الرسمى" أو أنشطة ما يسمى بالاقتصاد "غير الشرعي" (Black Economy) الذي يشمل تجارة واستهلاك المخدرات وكذا أنشطة تهريب السلع للإقتصاد القومى وغيرها من الأنشطة المماثلة. ومهما قيل عن دراسات قام بها إقتصاديون أجانب عن هذه القضايا فى الحالة المصرية فهى ليس لها أية حجية علمية، لأن البيانات التفصيلية لمكونات هذه الأنشطة غير متاحة، كما أن المنهجية لتركيب هذه البيانات ولتفادى الإزدواجية فى الحساب غير مستقرة علمياً، ولهذا فإن هذه التقديرات مجرد تخمينات تستند إلى إفتراضات محددة.

ومفهوم القطاع "غير الرسمي" ظهر أول ما ظهر فى الدراسة التى أعدتها بعثة مكتب العمل الدولي إلى كينيا عام 1972، وشمل هذا التعريف صنوف من المهن والأنشطة المتنوعة: خدمية أو صناعية (ورش بير السلم) أو أعمال إضافية خارج أوقات العمل الرسمية، أو ما كان يسمى فى الأدبيات "العمل خلسة فى ضوء القمر" Moon Lighting. ولكن السؤال الأهم هو من يقوم بتنشيط وتشغيل هذا "القطاع غير الرسمى" :

  • هل يقوم هذا القطاع بتشغيل نفسه بنفسه، أي أنه يقوم على تبادل الخدمات والصفقات بين المتعاملين في إطار هذا القطاع؟
  • أم يتوقف انتعاش وحيوية هذا القطاع "غير الرسمى" على تحفيز عناصر طلب مشتق من الدخول المتولدة في القطاع الرسمي. أو من خلال طلب مشتق من القطاع الخارجي (السياحة بشكلٍ أساسي)؟

إن علاقات الترابط هذه الأمامية والخلفية هي التي تحدد المسار الدينامي للقطاع "غير الرسمي" الذي لا ينشط في فراغ، بمعنى أنه إذا إنكمش حجم ونشاط القطاع الرسمى أو قطاع السياحة فإن ذلك يؤثر بلا شك على توسع أو إنكماش أنشطة وحجم القطاع "غير الرسمي".

وإذا كان بعض المسؤولين تحدثوا في السنوات الأخيرة عن دمج القطاع "غير الرسمي" في المجتمع الضريبي بهدف توسيع القاعدة الضريبية ورفع الحصيلة، فإن هذه المحاولة سوف يكون مصيرها الفشل. إذ أن الجانب الأعظم من أنشطة القطاع غير الرسمي هي أنشطة ضعيفة الإنتاجية يتولد عنها دخول قريبة من حد الكفاف أو (حد الإعفاء). وفى حالة الأنشطة الصناعية وورش الإصلاح فهى أنشطة متناهية الصغر ولا توجد لديها دفاتر أو حسابات منتظمة، مما يجعل من الصعب وضع نظام ضريبى تفوق تكلفته العائد المتولد من الحصيلة الضريبية، نظراً لصعوبة الحصر والربط والتحصيل. أو كما يقول المثل الشعبى : "ماذا يأخذ الريح من البلاط".

ومن الخبراء الأجانب الذين يتاجرون "بالاقتصاد غير الرسمي" هيرناندو دي سوتو مؤسس معهد الحرية والديموقراطية فى بيرو، والتلميذ النجيب لميلتون فريدمان أحد أعلام مدرسة شيكاغو. وقد زار مصر عدة مرات وتحدث عما أسماه رأس المال الميت (Dead Capital) لدى الفقراء في مصر. ومن ضمن مقولاته التى تتسم بالشعوذة : "أن الفقراء فى مصر يمتلكون 92 % من البنايات و88 % من جميع المشاريع وذلك خارج إطار القانون. وهى تشكل ما مقداره 248 مليار دولار".

وما يهدف إليه دي سوتو في الحقيقة، هو دمج المشروعات متناهية الصغر والملكيات الصغيرة للأراضى فى إقتصاد السوق، ولا عزاء للمعدمين. وقد تعرضت مقولات والأساليب الإحصائية لدي دى سوتو  لنقد شديد فى المجلات العلمية المتخصصة، رغم الحفاوة التى يحظى بها فى الدوائر الغربية ومنظمات التمويل الدولية .

خلاصة القول هنا أن الإقتراب من تلك القضايا يجب أن يصاحبه رفع لكل الالتباسات حول التعاريف وأساليب القياس حتى نتمكن من الفهم الصحيح للواقع المعاش. وفي ذلك فليجتهد المجتهدون.