هذا المقال بقلم عمر الشنيطي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
شهد رمضان الماضي تعليقات كثيرة على الكنافة بالمانجة، التي أصبحت من أهم حلويات رمضان في الطبقات المتوسطة وفوق المتوسطة بعد أن وصلت الإبداعات لمجال الحلويات الشرقية التقليدية، وصارت ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي على أسعار الكنافة بالمانجة والتي ارتفعت بما يزيد عن 30٪ في العديد من محلات الحلويات مقارنة بالعام الماضي، حتى أن البعض علق ساخرا أن الاستثمار في الكنافة بالمانجة أصبح أكثر ربحا من ودائع البنوك.
قد يبدو الموضوع ثانويا لكنه يشير إلى الكثير من التطورات الاقتصادية. فالأسرة التي تعتاد شراء سلة منتجات بشكل دوري، شهريا على سبيل المثال، تتابع أسعار تلك المنتجات لكنها تستقبل ارتفاع الأسعار تدريجيا وبزيادة طفيفة شهراً بعد شهر مما يجعلها تعتاد على الارتفاع المتكرر وتقارن السعر الجديد بسعر الشهر الماضي وليس سعر العام السابق. فلو على سبيل المثال ارتفع سعر سلة المنتجات بنسبة 30٪ من سنة لأخرى، فإن هذا يعني معدل ارتفاع شهري يقارب 2-2.5٪. ولذلك فإذا كان سعرها في بداية العام 100 جنيه وكان الارتفاع تدريجيا خلال العام، سيصبح سعرها في الشهر التالي 102-103 جينه، وهي زيادة بسيطة قد لا تنتبه لها الأسرة.
لكن الكنافة بالمانجة من الحلويات الموسمية ولا يتابع الناس أسعارها بشكل دائم ولذلك تستطيع أن تفاجئنا بارتفاع أسعارها من عام لآخر. هذا الارتفاع لم يقتصر على الكنافة بالمانجة فقط ولا حتى الحلويات الشرقية المماثلة التي ارتفعت بمعدلات متقاربة، لكن تلك الارتفاعات شملت العديد من المنتجات الأخرى. بطبيعة الحال، ارتفاع سعر سلعة أو سلعتين بما يفوق 30٪ لا يعني أن معدلات التضخم وصلت لهذا المستوى الجنوني لأن معدلات التضخم تقيس متوسط الزيادة في أسعار سلة كبيرة من السلع والخدمات، وإن كانت المعدلات الرسمية تشير لزيادة التضخم مؤخرا.
وتشير قصة الكنافة بالمانجة لموضوع هام آخر، وهو التصور السائد بأن سبب ارتفاع الاسعار هو ارتفاع الدولار الذى يؤدى بدوره إلى ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة، وهي نسبة كبيرة من المنتجات في السوق. السبب الآخر، فى اعتقاد الكثيرين، هو ارتفاع أسعار الطاقة بعد أن عمدت الحكومة لترشيد دعم الطاقة مما أدى لارتفاع تكلفة التشغيل والنقل وبالتالي إجمالي أسعار المنتجات. لكن هذين السببين لا يفسران ارتفاع أسعار الكنافة بالمانجة بهذا الشكل، حيث أن أغلب مكوناتها محلية الصنع وبالتالي لا تتأثر كثيرا بارتفاع الدولار، كما أن إنتاجها ليس كثيف الاستهلاك للطاقة ولا يتطلب نقلها تكلفة كبيرة، وبالتالي تأثرها بأسعار الطاقة لا يفترض أن يكون كبيراً.
وهنا يأتي سبب آخر لارتفاع الأسعار قلما يتم الإشارة إليه وهو ما يعرف بخلق النقد حيث يقوم البنك المركزي بطباعة النقد واستخدامه لشراء السندات الحكومية لتمويل عجز الموازنة وهو ما يزيد المعروض من النقد في الاقتصاد. ويتبنى البنك المركزي تلك السياسة من أجل تنشيط الاقتصاد بتشجيع الأفراد على الإنفاق والبنوك على الإقراض. كما أن التوسع في طباعة النقد يساعد على توفير التمويل اللازم لتمويل عجز الموازنة لكن تلك السياسة تأتي على حساب زيادة معدلات التضخم.
قد تبدو علاقة طباعة النقد بارتفاع الأسعار نظرية لكن لنتصور بلد افتراضية يسكن فيها بضعة أشخاص ويوجد فيها 100 منتج فقط والمتاح من النقد فيها 1000 جنيه فقط. لو اعتبرنا أن المنتجات المتاحة أساسية وتكاد تكفي احتياجات الأفراد، فإن الأفراد سيستخدمون كل المتاح من النقد لشراء تلك المنتجات مما يجعل متوسط سعر المنتج 10 جنيهات. إذا أراد من يدير تلك البلد الافتراضية تحفيز الاقتصاد بمضاعفة المتاح من النقد ليصل إلى 2000 جنيه بينما لم يزد الإنتاج الحقيقي، فإن ذلك سيؤدي لزيادة ما يستطيع دفعه الأفراد للحصول على تلك المنتجات مما يؤدي لارتفاع متوسط أسعار المنتجات تدريجيا ليصل إلى 20 جنيه بدلا من 10 جنيه.
رجوعا للواقع، فقد قام البنك المركزي بالتوسع في خلق النقد مؤخرا حيث تضاعف استثمار البنك المركزي في السندات الحكومية لتصل مدفوعات الفوائد للبنك المركزي 66 مليار جنيه، ما يعادل 27٪ من إجمالي الفوائد في موازنة العام المالي الجديد، مقابل 32 مليار جنيه، ما يعادل 16٪ من إجمالي الفوائد في موازنة العام الماضي. وقد انعكس ذلك على زيادة المعروض من النقد في القطاع المصرفي بقرابة 17-18٪ سنويا في الأعوام الأخيرة، مقارنة بمتوسط زيادة سنوي 8-10٪ قبل 2012، مما أدى لارتفاع معدلات التضخم لتصل إلى 13٪ مؤخرا متأثرة بارتفاع الدولار وزيادة أسعار الطاقة والتوسع في طباعة النقد، على الرغم من أن التضخم المحسوس به في الواقع قد يكون أكثر من ذلك.
لا يخفي المواطنون إستيائهم من ارتفاع الأسعار لكن تجربة الكنافة بالمانجة أوضحت ردود أفعال متفاوتة. فالفئات ميسورة الحال من أصحاب الدخل المرتفع لم يعبأوا بذلك الارتفاع واستمروا في شراءها من محلات الحلويات الفاخرة بعد أن أصبح ارتفاع سعرها سببا في جعلها منتجا فاخرا يمكن التباهي به. لكن على الناحية الأخرى، تذمر البعض من ارتفاع الأسعار على مواقع التواصل الإجتماعي، وهم على الأرجح من أصحاب الدخول المتوسطة، بعد أن طالتهم موجات التضخم المتتالية حتى أن بعضهم نشر وصفات تحضير الكنافة بالمانجة في المنازل مؤكدين أن تكلفة تحضرها أقل بكثير من سعرها في محلات الحلويات الفاخرة.
بشكل استراتيجي، الفترة الأخيرة أظهرت عزم الدولة على تحفيز الاقتصاد بكل السبل الممكنة حتى لو جاء ذلك من خلال طباعة كميات كبيرة من النقد لرفع معدلات النمو وتمويل عجز الموازنة وهو ما يأتي على حساب ارتفاع الأسعار بشكل كبير وما ينبتج عنه من آثار اقتصادية واجتماعية حرجة، حيث أن التضخم يقلل من القوة الشرائية الحقيقية للأفراد ويدفعهم لتقليل نفقاتهم تدريجيا وهو ما قد يتطور ليصبح شديد الخطورة لو استمرت السياسة الحالية. النمو هام لكن استقرار الأسعار بلا شك أهم وهو ما يتطلب إعادة النظر في السياسة الاقتصادية الكلية لإحداث توازن بين دفع النمو وضبط الأسعار .