طارق عثمان يكتب لـCNN: الملكية المصرية وناصر والعالم العربي.. جمال عبدالناصر بداية المشروع (6)

الشرق الأوسط
نشر
10 دقائق قراءة
رأي طارق عثمان
الرئيس المصري جمال عبد الناصر في مؤتمر صحفي في 29 مايو 1967
Credit: Terry Fincher/Express/Hulton Archive/Getty Images

في الذكرى السبعين لسقوط الملكية المصرية وبداية المشروع الناصري، الكاتب والمعلق السياسي طارق عثمان يكتب سلسلة جديدة لـCNN بالعربية عن تأثيرهما على العالم العربي. والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.

سبعون سنة - منذ سقوط الملكية المصرية في صيف 1952، وبداية صعود جمال عبد الناصر - فترة طويلة - لكنها لم تكن حتى الآن طويلة بما يكفي لإخراج المشاعر من النظر في التاريخ. ما زال بعد كل تلك السنوات جمال عبدالناصر شخصية مسببة لانقسامات هائلة - انبهار واصل أحيانًا إلى حد التقديس، أو امتعاض إلى حد الكره - ليس فقط في دوائر السياسة والتاريخ، ولكن أيضًا في المجتمعات العربية بشكلٍ عام.

كلمة "شخصية" هي المفتاح، بمعنى أن الرجل بعد كل تلك السنوات ما زال يُنظر إليه كشخص، وكأنه حاضر في حال مجتمعاتنا، مؤثر بأفكاره وأفعاله في الواقع، وليس كزعيم سياسي مرّ على زمنه عقود، كما مرّ على وفاته نصف قرن.

هناك حالات في العالم من ذلك النظر لسياسيين في الماضي من خلال مشاعر حادة. ربما نابليون هو الحالة الأوضح في التاريخ الحديث - حيث إنه ما زال، سواء في فرنسا، أو في بلاد أثّر جدًا في تاريخها، مثل بريطانيا وروسيا، مادة مثيرة للجدل، محفزة لآراء ساخنة.

في حالة جمال عبد الناصر هناك إصرار من مجموعات مختلفة في كل أنحاء العالم العربي تقريبًا على النظر له كبطل أو ككارثة. والملفت أن عبد الناصر دخل الوجدان العربي، إلى حد بعيد، من خلال تصورات خيالية - مثلًا قصائد نزار قباني، أو من روايات وأفلام ظهرت في عهد سلفه أنور السادات أُشير فيها إلى عبدالناصر وكأنه شخصية تكاد تكون مُغيبة عن الواقع.

لكن بعيدًا عن الشخصية - وبعيدًا عن التعظيم والتقديس أو التقليل والكره - هناك المهم، وهو مشروع جمال عبدالناصر وتأثيره الكبير على كل مناطق العالم العربي، وضرورة النظر فيهما بعقلانية باردة، تريد الفهم وتقفي أثر الفعل على مر السنين، ولا تريد لا التمجيد ولا اللعن.

المكون الأول في مشروع جمال عبدالناصر كان محاولة إنهاء الوجود الاستعماري في مصر ثم في العالم العربي.

لا شك أن المشروع بدأ بمصر فقط، لكن الواضح أن فكر عبد الناصر لم يأخذ وقتًا طويلًا ليرى أن الوجود الإمبراطوري لبريطانيا وفرنسا في الشام وكامل الشرق الاوسط وشمال إفريقيا متصل، لا يمكن إنهاؤه إلا من خلال جهد متكامل.

لكن أيضًا لا شك أن عبد الناصر لم يطور استراتيجية - بالمعنى الجاد للكلمة - للتعامل مع الوجود الإمبراطوري الغربي في العالم العربي. الظاهر أن عبد الناصر تعامل مع ما كان أمامه من خلال خطوات محددة - مثلًا نقاشات مع السلطات العسكرية البريطانية الموجودة في أوائل الخمسينات في منطقة قناة السويس، ثم مفاوضات مع مندوبين بريطانيين مختلفين، ثم تعرف على واقع الصراع مع الاستعمار في دول في المنطقة كان أهمها (من ناحية عمق الصراع وتأثيره في محيطه، الجزائر)، ثم اتخاذ خطوات صارمة ضد مصالح الاستعمار حتى ولو أدى ذلك إلى مواجهات بدت وقتها شديدة الخطورة (بما في ذلك على عبدالناصر نفسه).

بالطبع أهم هذه الخطوات كانت تأميم شركة قناة السويس (والحكاية وراء القرار مهمة وإلى حدٍ ما دالة على أسلوب تفكير الرجل في تلك المرحلة من تجربته)، لكن تبعات القرار كانت أهم (وأقرب لإطار هذه السلسلة).

من الصعب المبالغة في أهمية التأميم في وقته - ذلك أن شركة قناة السويس وقتها متحكمة في أهم مجرى مائي في العالم (وأهميته وقتها عسكرية وأمنية للغرب، خاصة لبريطانيا، مثل ما هي تجارية)، كما أن الشركة كانت في ذلك الزمن حافظة لمصالح عدد من أهم دور الاستثمار والبنوك الإنجليزية، وتلك المصالح كانت من القوة أن تأثيرها كان واصلًا إلى عمق دائرة صنع القرار السياسي في بريطانيا.

خطورة القرار كانت واضحة. التأميم كان ضربة مباشرة لبريطانيا في وقت كانت فيه الإمبراطورية البريطانية في تراجع شديد في آسيا، وعليه بدت قناة السويس واحدة من أهم الموجودات الاستراتيجية التي كان يتحتم على بريطانيا الحفاظ عليها لو كان للإمبراطورية أن تبقى. كما أنه مع الضربة كانت هناك، من وجهة نظر أنتوني إيدن رئيس الوزراء البريطاني وقتها، إهانة، وإيدن وقتها في أوضاع سياسية وصحية ونفسية سيئة. وعليه كان إيدن في ذلك الوقت باحثًا عن معركة.

وبالفعل جاءت المعركة. وقد أرادها إيدن مواجهة بين الغرب وعبدالناصر، وعليه تحالفت بريطانيا مع فرنسا وإسرائيل لضرب مصر، والهدف إزالة عبدالناصر وخلق ظروف تؤدي إلى تغيير النظام وعودة واحدة من القوى التي كانت فاعلة في مصر قبل سقوط الملكية في 1952.

الهدف لم يتحقق، بشكل رئيسي لإن أداء إيدن للأزمة كان منذ البداية كارثيًا. كما أن الموقف الصلب للاتحاد السوفيتي من محاولة الغزو، مع رفض الولايات المتحدة الأمريكية مساعدة بريطانيا، خاصة عندما بدأت رؤوس أموال أمريكية سحب ودائعها من الاسترليني، أديا إلى فشل العملية بالكامل.

فشل إيدن أنهى حياته السياسية - وكان ذلك، بطبائع تشخيص الصراعات، نصرًا لعبدالناصر. لكن الأهم كان أن الفشل في السويس - كما قال عدد من المؤرخين، خاصةً البريطانيين - أعطى لتراجع الإمبراطورية سرعة بدا معها أشبه بانهيار. ولا شك أن بداية النهاية التامة للإمبراطورية البريطانية بعد السويس كانت، بأي حساب سياسي، نصرًا غاليًا لجمال عبدالناصر.

لكن هنا يجب التوقف أمام ما كان بالفعل انتصارًا حقيقيًا، كما يجب إدراك وهم بدأ يتكون في تلك اللحظة.

الانتصار كان أن جمال عبدالناصر - بظروف مُساعدة - استطاع أن يُجيِش وراءه أكبر حشد شعبي عرفته مصر منذ عقود إذ لم يكن منذ قرون. الانتصار كان أيضا - مرة أخرى بظروف مُساعدة - في إلهام أكبر حركة سياسية شعبية في كل العالم العربي، لا شك منذ قرون.

هذه النقطة الثانية شديدة الأهمية، لأن الحركة السياسية الشعبية كانت نقطة تحول في كل التاريخ السياسي العربي الحديث – حيث إن كل التطورات السياسية الكبرى، سواء في الجزيرة العربية والشرق الأوسط والشام وشمال إفريقيا ووادي النيل، قبل ذلك لعدد من القرون، كانت نتيجة تفكير وعمل مصالح كانت على قمة العمل السياسي في كل المنطقة، وقد كانت كلها تقريبًا غير عربية.

الحركة الشعبية التي بدأت في الظهور بعد أزمة السويس كانت من وسط المجتمعات العربية وليس من قمتها، وكانت نابعة من تصور أن هناك هوية عربية جامعة لشعوب هذه المنطقة، وأن هذه الهوية لا بد واصلة إلى مصالح مشتركة، وأن هذه المصالح مختلفة عن تلك المرتبطة بهويات غير عربية، خاصة الهويات الغربية التي تحكمت في المنطقة في المائة وخمسين عامًا التي سبقت تلك اللحظة. هذه النقاط مجتمعة أعطت مشروع جمال عبدالناصر طاقة احتمالية مهولة.

ذلك أدى إلى جزء أخر من الانتصار، وهو أن الحركة التي شكلت مشروع جمال عبدالناصر أصبحت بسرعة الصورة الأوضح لفكرة القومية العربية - وتلك القومية وقتها خارجة للمنطقة وللعالم بطموحات، مثلما كانت هويات جمعية أخرى، مثل الهوية الاوروبية، خارجة لقارتها وللعالم وقتها، بطموحات وتصورات للمستقبل.

لكن مع الانتصار، كانت هناك بدايات وهم - وهو أن الانتصار كان من صنع جمال عبدالناصر أو أنه كان تعبيرًا عن قوة دفينة في مشروعه، بينما الذي حدث أن الأسباب التي أدت إلى الانتصار كانت من خارج المشروع والبلد والإقليم. بمعنى أنه كان هناك مزج بين عوامل قوة داخل المشروع (عوامل الحشد والتعبير عن الهوية الصاعدة والطاقة المحتملة) مع أسباب كان لها الحسم في أحداث النصر. هذا المزج خطير، لأنه صور طاقة الفعل المحتملة على أنها وسائل قوة حاضرة، وذلك في كل الأحوال يأخذ العقل إلى تصور أن صاحبه أقوى كثيرًا مما هو في الواقع.

النصر أعطى جمال عبدالناصر شرعية قبول جماهيري ربما غير مسبوقة في كل التاريخ المصري. لكن التأثير السياسي الأعم كان تغيرًا كاملًا في حركة القومية العربية، ليس فقط في الأفكار التي قامت عليها الفكرة، ولكن أيضًا في وسائل الدعوة للفكرة، كما في محاولات تطبيقها - كما سنرى في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.