في الذكرى السبعين لسقوط الملكية المصرية وبداية المشروع الناصري، الكاتب والمعلق السياسي طارق عثمان يكتب سلسلة جديدة لـCNN بالعربية عن تأثيرهما على العالم العربي. والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
يونيو 1967 كانت ضربة سياسية أكثر بكثير مما كانت عسكرية - ذلك أن الجيش المصري حارب الجيش الاسرائيلي الذي انتصر في 1967 بعد أيام من حرب يونيو، ثم كان أن استطاع الجيش المصري، في اكتوبر 1973، أن يحقق نقلة نوعية في الوضع الاستراتيجي لمصر، وإلى حد بعيد للعالم العربي، وكانت تلك النقلة هي التي فتحت أبواب المفاوضات الجادة بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. لكن الضربة السياسية في 1967 كانت أهم، لثلاثة أسباب.
الأول - أن حرب يونيو 1967 دخلت التاريخ كالمعركة الأهم في صراع المشروع القومي العربي تحت قيادة جمال عبد الناصر وبين المشروع الصهيوني (وقيادته منذ نشأة إسرائيل وحتى تلك الحرب، وإن بشكل غير مباشر، كانت لديفيد بن جوريون، وهو في تلك اللحظة نقيض تاريخي لجمال عبد الناصر). الدور الرئيسي لتلك المعركة نابع من أن النتائج التي ترتبت عليها كانت كبيرة التأثير في خريطة الشرق الأوسط، و الكثير من تلك النتائج ما زال على الأرض إلى اليوم.
السبب الثاني – أن كل مجهود جمال عبد الناصر بعد يونيو 1967 تحول الى ما عُرف وقتها بـ "محو آثار العدوان" والاستعداد لمرحلة استعادة ما فُقِد في يونيو 1967. وكان معنى ذلك أن حرب 1967 غيّرت مسار المشروع الناصري تمامًا، من التوسع السياسي في كل العالم العربي والتواجد في مناطق مختلفة من أفريقيا وآسيا ولعب دور مهم في التوازنات العالمية من خلال حركة عدم الانحياز والتعاون مع الهند وتشيكوسلوفاكيا وقتها، إلى حصر كل الجهود من أجل هدف محدد وهو استعادة الأرض. لذلك فإن يونيو 1967 بالرغم مما تلاها من حرب استنزاف ثم من نجاح في أكتوبر 1973، كانت النهاية الحقيقية للمشروع الناصري.
السبب الثالث - يونيو 1967 أثرت بشكل شخصي على جمال عبد الناصر. الرجل كبُر بعد تلك الضربة، وبدا ان العملاق الثابت على ضفاف النيل والذي بلغت شهرته الآفاق، فقد الكثير من وزنه السياسي، وبدت نظراته - تلك الثاقبة الحاملة من قبل لقوة وثقة وكأنها قادمة من عمق التاريخ المصري والعربي - وكأنها تغيرت كثيرًا وأصبحت معبأة بتعب - وغالبًا بإحساس دفين بأنه يحمل وزرًا أمام أمته عليه أن يُكفِر عنه. وكان هذا التغيُر في شكل عبد الناصر السياسي، وفي ما يحمله وجوده من معنى كان قد ترسخ في وجدان مجموعات كبيرة من العرب، خسارة فادحة للمشروع الناصري.
لذلك ليس غريبًا أنه مع تراجع الدور المصري إلى حدود البلد، وتركيز مصر بعد 1967 على معركتها القادمة، برز فراغ في السياسة العربية كان أن حاول ملأه، طيلة السبعينات والثمانينات، بعض الرؤساء العرب الذين كانت إمكانات عقولهم وعزائمهم ووعيهم أقل كثيرًا من احلامهم. وكانت نتيجة ذلك كارثية على مشروع القومية العربية (وربما على الفكرة نفسها). لكن التغير الأهم، والوجود الأكبر في تأثيره، كان في ظهور مال البترول العربي كالقوة الجديدة القادمة لملئ ذلك الفراغ. ولذلك، بطيئًا لكن بوضوح، انتقل ثقل السياسية في العالم العربي إلى الجزيرة العربية و شواطئ الخليج. وكان لهذا الانتقال تأثيرات عظيمة الأثر على السياسة والاقتصاد والثقافة في كل العالم العربي.
إلى حد بعيد، ضربة 1967 أيضًا غيرت في النظرة العالمية لاسرائيل. ذلك أن النجاح الكبير في تلك المعركة أمام المشروع الأهم والأكبر للقومية العربية، أعطى إسرائيل نوعًا جديدًا من التموضع العالمي، أصبحت فيه قوة (وقتها) ناشئة ولكنها فاعلة، وبأكثر مما تصورت أغلب دول العالم (بما في ذلك أقرب حلفاء إسرائيل اليها). ولذلك أنه في اللحظة التي تراجع فيها المشروع الناصري من مساحات كبيرة من وجوده في العالم، بدأت إسرائيل توسع من وجودها وتبني علاقات كان من الصعب جدًا عليها تطويرها في سنوات المد الناصري.
يبقى أن الصراع الكبير بين القومية العربية، خاصة في إطار مشروع جمال عبد الناصر، وبين إسرائيل سؤال مهم، لأن مصر ذهبت إلى سلام مع إسرائيل بعد سنوات قليلة من موت جمال عبد الناصر. وذلك يفرض التفكير في هل كان الصراع في اساسه حول الأرض، فإذا حُلت مشكلة الأرض (كما حدث مع اتفاقيات كامب ديفيد) حُلت أكبر عُقد الصراع - أم ان الصراع كان بين مشروعين لديهما تصورين مختلفين تمامًا لشكل المنطقة وللاقتصاد السياسي لها، وعليه فإن الصراع أكبر من أراض يُحارب و يُفاوَض عليها. الجزء الأكبر من تاريخ المشروع الناصري يؤدي إلى التصورالثاني. وإذا كان الأمر كذلك، فالنتيجة هي ان المشروع الناصري فقد تأثيره ليس فقط في العالم العربي والمساحات الكبيرة التي كان قد وصل إليها في الخمسينات والستينات في أفريقيا وآسيا، ولكنه أيضًا فقد تأثيره في قلب وجوده الجغرافي، في مصر، بعد أقل من عشر سنوات على موت صاحب هذا المشروع، جمال عبد الناصر. وذلك يدعو للتفكير أن الكثير مما تُصُوِر من قوة وعمق لذلك المشروع كان في حقيقته قلاع من رمال.
جمال عبد الناصر مات بعد ثلاث سنوات من 1967. الرجل لعب دورًا كبيرًا في بناء الجيش المصري وتغيير هيكله وأسلوب عمله (بعد أن كان بعيدًا عن ذلك الجيش طيلة سنوات صعود مشروعه). ولاشك أن الكثير من النجاح المهول الذي تحقق في اكتوبر 1973 يعود الى مجهودات جمال عبد الناصر في تلك السنوات الثلاث.
لكن حجم المشروع الناصري وكبر طموحاته التي سطعت في سماء العالم العربي منذ منتصف الخمسينات أكبر من النظرة الخاصة بالاستعداد لمعركة عسكرية أخرى. موت الرجل وهو بعد في أوائل الخمسينات من عمره، يجعلنا مجبرين أن ننظر في تركة جمال عبد الناصر و قد اختارت الأقدار أن تكون تلك التركة قد صغُرت جدًا بعد ان كانت ملئ الأرض و السماء. تلك النظرة في التركة هي موضوع الحلقة القادمة والأخيرة من هذه السلسلة.