هذا المقال بقلم شاناز إبراهيم أحمد، السيدة الأولى لجمهورية العراق، مدافعة عن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، ومؤسِسة أقدم جمعية خيرية للأطفال في كردستان عام 1991، والآراء الواردة أدناه تعبّر عن وجهة نظرها ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
ما أصدق من قال إن الصحفيين هم من يكتبون مسودة التاريخ الأولى. وفي العراق، فرسان الصحافة هم صناع التاريخ أيضا وليس كتّابه فقط.
كان الصحفيون الشجعان المتنورون وأصحاب الضمائر الحية في طليعة المسار التقدمي منذ نشأة العراق في عام 1932. حینها، خاطرت القامات الإعلامية الكبيرة، من أمثال والدي الراحل إبراهيم أحمد، بكل غالٍ ونفيس لنقل الحقيقة وتوعية الجماهير. لقد كانوا صوت الحق، صوت المضطهدين ووضعوا اللبنة الأولى للمجتمع المدني بمنظماته ومكوناته الديناميكية التى أثمرت مكاسب نوعية هائلة للشعب لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. في أربعينيات القرن الماضي قضى إبراهيم أحمد عامين كاملين في سجن بغداد بتهمة ملفقة له بالتمرد. وكانت حياته حافلة بالمشقات والمخاطر.
ولدتُ أنا بعد بضعة أيام من نجاته بأعجوبة من إحدى محاولات اغتياله في السليمانية. لم تنعم عائلتنا أبدًا بحياة مستقرة هانئة، فقد كنا تحت التعقب والملاحقة باستمرار مما أجبرنا دومًا إلى اللجوء خارج البلد، ولكننا نعود مع سنوح كل فرصة. لقد كان والدي يعشق هذا الوطن بصدق وكرّس حياته للنضال مدافعًا عن استقلاله، حاميًا لحقوق الانسان والديمقراطية والتعايش السلمي، فقد ناضل وقاتل بقلمه من خلال الصحف التي أصدرها.
في اليوم العالمي لحرية الصحافة، يسعدني ويشرفني أن أقف إجلالا وتقديرا للعديد من الصحفيين العراقيين الشجعان الذين كرسوا حياتهم للمثل العليا النبيلة التي سعى والدي دوما لتحقيقها. إذ أنها حقا مهنة المتاعب لا مهنة الشهرة أو الثروة، فالمخاطر فيها تفوق بكثير المكاسب الشخصية.
فمنذ عام 2003 استشهد 165 صحفيًا عراقيًا أثناء أداء ذلك الواجب المقدس. ويتضاعف هذا الرقم عند الصحفيين الأجانب الذين استشهدوا أثناء تغطيتهم للأحداث من العراق ولا يمكن التقليل من حجم التضحيات التي قدموها في البحث عن الحقيقة. إن هذا الدم الغزير هو في الواقع مجرد جزء بسيط من ذلك العدد الهائل من الصحفيين الذين ازهقت أرواحهم في جميع أنحاء العالم ثمنًا لرسالتهم الشريفة في كشف المستور من الفجائع والمآسي. تؤكد الاحصائيات توثيق 1138 حالة وفاة مؤكدة من قبل لجنة حماية الصحفيين بسبب القتال خلال الفترة ذاتها.
في العراق، تعرّض الصحفيون للهجوم بالأسلحة النارية أثناء أداء مهامهم في مناطق القتال أو أثناء توجههم إلى عملهم. كما قُتل الكثيرون بوحشية مبتكرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، اقتحم مسلحون ملثمون متنكرون بزي الشرطة مكتبا إعلاميا وأعدموا 11 صحفيًا وجرحوا كثيرين آخرين. كما سجلت حوادث اختطاف كثيرة مع ممارسة أبشع أنواع التعذيب، ومن ثم تليها عمليات إعدام بإجراءات سريعة.
كان العقدان الماضيان في العراق سنوات عجاف، وقد بلغت من السن ما يكفي لأتذكر الفترات المظلمة الأخرى التي مرت على العراق، فترات كارثية على الصحفيين الموهوبين والمتفانين في عملهم في العراق. خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) وحرب الخليج عام 1991، كان على الصحفيين العراقيين الملتزمين بالحيادية والنزاهة اللجوء الى استخدام الحيل بسبب رقابة صدام حسين الحديدية كما كتب أحد المراسلين العراقيين المخضرمين، ليس هنالك أسهل من قتل الصحفي بحجة نقل أخبار تعتبر سرية أو ضارة بالدولة. حيث يتذكر كيف هدده سيادة الوزير قائلا «سأطلق النار عليك بمسدسي وأعلق جسدك على الجسر». إن الذي يدمي القلوب هو استمرار هذا الواقع في العديد من الدول الأخرى.
لا يُنكر أن العراق الجديد يتجه بخطى حثيثة نحو الديمقراطية، متحررًا من الحكم الديكتاتوري والرقابة الاستبدادية. في حين أن هيئات الرقابة الإعلامية الدولية لم تكن سخية ومنصفة في تقييمها للمشهد الإعلامي في العراق (احتل العراق المرتبة 172 من أصل 180 دولة ضمن مؤشر حرية الصحافة الصادر عن مؤسسة مراسلون بلا حدود لعام 2022) فمن العدل أن نقول إننا نسير على الطريق الصحيح.
ومنذ عام 2003، تم إطلاق أكثر من 200 صحيفة و80 محطة إذاعية و20 قناة فضائية في العراق. إذ تضمنت الفقرة الثانية من المادة 38 من الدستور حرية الصحافة والتعبير. إن هذا الانفجار الاعلامي له مدلولات كثيرة، أهمها أنه لا يزال أمامنا طريق طويل لتحقيق مجتمع منفتح فعليا تكون الوسائل الاعلامية فيه قادرة على الحصول على المعلومات ونقل الحقيقة بكل حرية واستقلالية.
التحدي الآخر الذي يواجهه الصحفيون في العالم هو ما أسميه ديمقراطية الصحافة. فالإشكالية لا تنتهي بتراجع العنف الجسدي ضد الصحفيين، لأن أحد المخاطر التي تهدد المجتمعات تكمن في ماهية الصحافة الجديدة التى باتت بالنسبة للكثيرين، كفيديو هاتف خلوي أو راوٍ غير مدرب، ولا توجد أي معايير أو عقوبات تمنع التشويه وقتل الحقيقة بالاضافة إلى الافتقار إلى مصادر موثوقة من صحفيين مستقلين محترفين. وكما يُلاحظ كثيرًا أن (التقرير الأول عادة ما يكون خاطئا). وأنا أيضا أواجه ضغوطا للبقاء صامتة عندما أكتب عن الأمور الحساسة أو بعض القضايا القريبة من قلبي. ويتم استخدام الدعاية والأخبار المزيفة لتشويه اسمي، ولكني لن أتراجع ولن أصمت وسأبقى أدافع عن حقوق الآخرين في نقل الحقائق بحرية ومسؤولية.
لا يخفى على أحد منا أن الصحافة غير المسؤولة هذه تلحق ضررًا كبيرًا بالمجتمع والعنف الذي من الممكن أن تحرض عليه لا يمكن تحديه إلا بواسطة الصحفيين المحترفين والعملية لا تخلو من الخطورة.
إنني هنا أرى لزاما عليّ، ومن أجل ألا تبقى القصة غير مكتملة، أن ألقي الضوء على مجموعة فرعية خاصة من الصحفيين.
في العراق، تتأثر الصحفيات بشكل خاص بتحديات هذه المهنة، فمن بين 165 صحفيًا عراقيًا من الذين استشهدوا منذ عام 2003، هنالك 13 امرأة، ولكنهن يواجهن مخاطر إضافية في العمل، سواء كانت مضايقة في مكان العمل أو في المهمة التي يقومون بها أو عدم المساواة في الأجر عن نفس العمل أو عدم التعاطف مع الأدوار الإضافية التي يلعبنها في المنزل كأمهات وزوجات أثناء معاناتهن مع مهنة كمهنة الصحافة.
وبعد سلسلة من المناقشات المكثفة والمعمقة مع الصحفيات في البلد، قررت تأسيس تحالف الصحافة النسائية العراقية بهدف تقديم الدعم لهذه الفئة الفرعية المغبونة في هذا القطاع الحيوي. إنها منظمة أتمنى أن تسترعي الانتباه لهذه المجموعة المميزة من الشجاعات اللواتي ومثل نظرائهن من الذكور يواجهن الخطر كل يوم لنقل الحقيقة والعمل على النهوض بمجتمعنا. إنهن التجسيد الحقيقي للعنوان الرئيسي لإحدى الصحف الشهيرة الذي يقول الديمقراطية تموت في الظلام.
لذا، وفي هذا اليوم العالمي لحرية الصحافة، أحيي رجال ونساء الصحافة في جميع أنحاء العالم، وأتوجه بتحية خاصة لصحفيينا العراقيين الشجعان الذين يقومون بمهام كبيرة في العراق وفلسطين وعشرات البلدان الاخرى. إنهم لا يقومون بنقل الحقيقة فحسب، بل إنهم يضعون أصحاب السلطة امام المساءلة مسلطين الضوء على الفساد ويطالبون بالعدالة وسيادة القانون. بالفعل إنها مهنة نبيلة ومن يمارسها يستحق منا الشكر والتقدير ليس في هذا اليوم فقط، بل في كل يوم وفي غمرة كل حدث.