هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
"نحو الإفراج عن مصر" هو عنوان تقرير جديد أصدره مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ويحمل توثيقا لامتداد عمر قانون يسلب المواطنين حقوقا وحريات أساسية صدر في ١٩١٤ وألغى في ١٩٢٨ ومازالت الدولة المصرية ممثلة في أجهزتها الأمنية ومؤسساتها القضائية تعمل به إلى اليوم.
القانون هو قانون التجمهر الذي تتبع باحثو مركز القاهرة عمره المديد بين صدور اكتنفه البطلان ثم إلغاء شرعي تجاهلته الحكومات المتعاقبة وصولا إلى التوظيف العنيف لمواده منذ صيف ٢٠١٣ كمواد مكملة لقانون التظاهر (الصادر في ٢٠١٣) لكي يجرد المواطن بالكامل من حقه في التعبير الحر عن الرأي وفى التجمع السلمي، ولكي يغلق الفضاء العام في وجه المصريات والمصريين الباحثين عن الحرية والعدل، ولكي تواصل السلطوية الجديدة حربها الشرسة ضد المجتمع المدني والأصوات الرافضة للصمت على انتهاكاتها وجرائمها الكثيرة.
يسجل التقرير صدور قانون التجمهر في ١٩١٤ في سياق قانوني وسياسي غلب به النزوع لتقييد الحريات وتنافس به بعض المسئولين المصريين على استرضاء سلطات الاحتلال البريطاني بقوانين وممارسات قمعية. في أكتوبر ١٩١٤، نشرت الوقائع المصرية القانون المؤلف من خمس مواد موقعا عليه من قبل رئيس الوزراء (النظار) آنذاك حسين رشدي باشا نيابة عن حاكم البلاد (الأسمى) الخديوي عباس حلمي الثاني. جرم القانون تجريما مطلقا أي تجمع مكون من "خمسة أشخاص فأكثر، إذا رأى رجال السلطة العامة أن من شأنه الإخلال بالسلم العام. وفى حالة رفض المجتمعين الامتثال للأمر الصادر بالتفرق، يعاقب المشاركون في التجمع بالحبس لمدة لا تزيد على 6 أشهر أو بغرامة لا تقل عن 20 جنيها. كما قرر العقوبة ذاتها إذا كان التجمهر بغرض ارتكاب جريمة ما أو تعطيل تنفيذ القوانين واللوائح، أو إذا كان الغرض منه التأثير على السلطات في أعمالها، أو حرمان شخص من حرية العمل باستعمال القوة أو التهديد باستعمالها مع توافر علم المشاركين بالغرض الإجرامي من التجمهر وعدم ابتعادهم عنه.
وترتفع العقوبة للحبس سنتين إذا كان بحوزة الشخص سلاحا أو آلات قاتلة. أقر القانون أيضا مبدأ المسئولية الجماعية وعقاب مدبري التجمهر بالعقوبات نفسها التي تقع على الأشخاص المشاركين في التجمهر. ويكون مدبرو التجمهر مسئولين جنائيا عن كل فعل يرتكبه المتجمهرون حتى وإن كان المدبرون غير مشاركين في التجمهر، أو ابتعدوا عنه قبل ارتكاب الفعل".
مكنت قراءة معمقة في الوثائق المصرية والبريطانية المرتبطة بقانون التجمهر باحثي مركز القاهرة من إعادة تركيب حقائق قانونية وسياسية بالغة الأهمية.
أولا، صدر القانون باطلا، لكون رئيس الوزراء حينها لم يكن له سلطة إصدار القوانين ولم يكن قد فوض من قبل حاكم البلاد الخديوي عباس حلمي الثاني (الغائب في أكتوبر ١٩١٤ عن مصر بسبب إجازة خاصة في الديار العثمانية) سوى في إصدار القرارات التنفيذية.
ثانيا، وافق البرلمان المصري بمجلسيه النواب والشيوخ على إلغاء قانون التجمهر في يناير ١٩٢٨ وأحاله إلى الملك فؤاد الأول للتصديق عليه ونشره في الوقائع المصرية عملا بمقتضى المادة ٣٤ من دستور ١٩٢٣.
ثالثا، تأسيسا على دستور ١٩٢٣ في مادته ٣٥ كان للملك وقتها إما أن يصدق على قانون إلغاء قانون التجمهر أو يعترض عليه ويعيده إلى البرلمان أو يتركه دون إبداء اعتراض فيصبح ساريا وفى حكم المصدق عليه إذا مر شهر من تاريخ إرسال البرلمان للقانون. وذلك هو ما تثبت باحثو مركز القاهرة من حدوثه، ووجدوا من المكاتبات الرسمية ما يقطع باعتبار السلطات المصرية والبريطانية أن قانون التجمهر قد ألغى.
رابعا، تجاهلت الحكومات الملكية والجمهورية المتعاقبة حقيقة الإلغاء الشرعي لقانون التجمهر في ١٩٢٨ وكان امتناع الملك فؤاد الأول عن نشر الإلغاء في الوقائع المصرية مدعاة لتشبث أغلب الحكومات بتوظيف مواد قانون التجمهر لسلب المواطنين حقهم في التعبير الحر عن الرأي وفى التجمع السلمي. باستثناء السنوات القليلة التي حكم بها حزب الوفد في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، تكالبت على مصر حكومات توافرت بها الإرادة القمعية ولم ترد من المصريات والمصريين سوى الطاعة دون مساءلة أو الصمت على انتهاكات وجرائم وسياسات فاشلة دون اعتراض. بل أن قانون التجمهر الملغى وظف كذريعة "قانونية" لتمرير قوانين وقرارات تنفيذية صرحت للأجهزة الأمنية باستخدام القوة القاتلة في فض التظاهرات والمسيرات والاحتجاجات السلمية كقانون الشرطة رقم ١٠٩ لسنة ١٩٧١ الذي يجيز لقوات وعناصر الأمن في نص منقول حرفيا من مواد قانون التجمهر "استعمال القوة لفض تجمهر من ٥ أشخاص على الأقل إذا عرض الأمن العام للخطر وبعد إنذار المتجمهرين بالتفرق".
خامسا، يشدد تقرير "نحو الإفراج عن مصر" على أن قانون التجمهر الملغى يمثل "حجر زاوية" في العدد الأكبر من قضايا التظاهر المنظورة أمام المحاكم منذ صيف ٢٠١٣ ويندرج بمواده السالبة للحقوق والحريات مع المواد صريحة الطبيعة القمعية لقانون التظاهر في سياق وحيد هو تمكين السلطوية الجديدة من تعقب المواطنين سجنا وحبسا، ومن إغلاق الفضاء العام في وجه المصريات والمصريين الرافضين للطاعة العمياء وللصمت على الجرائم والانتهاكات المتراكمة.
يستحق باحثو مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان الإشادة على تتبعهم وتوثيقهم للعمر المديد لقانون صدر منذ أكثر من ١٠٠ عام، وألغى شرعيا منذ ما يقرب من ٩٠ عاما، وقررت الحكومات المتعاقبة تجاهل الإلغاء ومواصلة استخدامه لسلب الحقوق والحريات. يستحقون الإشادة على محاولتهم إعادة قضايا الحقوق والحريات إلى واجهة النقاش العام في مصر، وفى ظل ظروف بالغة الصعوبة يعملون بها وهم معرضون يوميا للتعقب والعقاب من قبل حكم يرى في المجتمع المدني وفى المنظمات الحقوقية المستقلة أعداء ومتآمرين. يستحقون الإشادة لتحركهم مع آخرين من المجتمع المدني لمطالبة قضاء مجلس الدولة بإشهار وفاة قانون التجمهر وإلزام السلطات الرسمية بتنقية البنية التشريعية المصرية من الكثير المتراكم من قوانين وقرارات سلطوية.