هذا المقال بقلم سلمى حسين، صحفية من مصر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
هلّ علينا حدث هو الأكبر والأهم في تاريخ الاقتصاد المصري، هو المؤتمر المصري للتنمية الاقتصادية بشرم الشيخ. هو كذلك مقاسا بحجم الحضور عددا وكيفا. فلأول مرة يجتمع هذا الكم من وفود دولية رفيعة المستوى وكبار مديري الشركات العالمية في مصر. يحدث هذا بدعوة ودعم سخي من كبار القادة السياسيين العرب، حكام أهم دول الخليج المالكين لمحافظ استثمارية في أنحاء العالم الأربعة تقدر بمئات المليارات. مليارات تراكمت عبر السنين بفضل فوائض مهولة من تصدير البترول وبفضل تحالفات دولية أمنت لها استقرار تلك الفوائض. فلماذا يهتم حكام الخليج بتمويل ورعاية مثل هذا الحدث الكبير غير المسبوق لمصلحة مصر؟إبطال الزخم الثوري في المنطقة هو الدافع الأول لكثير من حكام المنطقة (والعالم) ومنهم النخب الحاكمة في مصر (قبل وبعد وأثناء الاخوان). والمقصود هو وأد أي إصلاح جذري للاختلالات الاجتماعية العميقة نموذج أكثر عدالة وعدلا خاصة من حيث نمط توزيع الثروة. نموذج كان من المتأمل أن يأتي نتاج الثورات، عبر تداول حقيقي للسلطة والقضاء على الفساد وفتح الباب لمساءلة الشعب لحكامه.
وهكذا، التقى على هدف مشترك الكثير من حكام المنطقة والعالم. إذ ترى السعودية، وهي من أهم اللاعبين الإقليميين حاليا، إن لم تكن الأهم، أن وقوف مصر إلى جانبها هو عامل حاسم في وقف مد الزخم الثوري إلى دول عربية أخرى. ومن أجل هذا تدفع الثمن شراءاً لاستقرار الرابضين على كراسي الحكم.
وتسعد النخبة المصرية الحاكمة بإبقاء موازين القوي الاقتصادية على ما هي عليه وترى في اموال الخليج مخرجا سريعا من أزمة اقتصادية طاحنة بما سيسمح بتوسيع دائرة المستفيدين من النمو من عموم المصريين. وهكذا، التقت القيادة السياسية المصرية مع تلك الدول الغنية على ضرورة خلق ظرف اقتصادي يسمح بقدر من الرخاء السريع أملا في إطفاء جذوة الغضب لدى الأغلبية الكاسحة من المصريين، الذين ما زالوا يرون أن لا صوت لهم ولا سند بعد ثورتين ملهمتين.
لم يغير مجيء عاهل سعودي جديد، من تلك الرؤية، وإن اختلفت الشروط المملاة على مصر من أجل تدفق الأموال. فصار مثلا التقارب مع بقية الدول السنية في المنطقة، وعلى رأسها تركيا وقطر، شرطا لاستمرار الدعم، وهو ما بدا مقبولا من مصر.
وهكذا، انحسر حلم التنمية العادلة إلى "رش" كم متواضع من البترودولارات، والكثير من وعود الرفاه. ولكن بعيدا عن معايير التنمية المركبة المتعارف عليها في الفكر الاقتصادي، وحتى بمعيار متواضع مثل حجم الأموال الآتية، إلى أي مدى ستضمن تلك الأموال تهدئة ولو مؤقتة للفورة الثورية في المنطقة التي تحظى بنسبة شباب هي الأكبر بين أقاليم العالم، شباب متعلم عاطل، لا صوت له ولا عمل ولا سبل تغيير وإصلاح ديمقراطية؟
سينجح المؤتمر حتماً
سينجح المؤتمر حتما في جذب الاستثمارات المنشودة بل وأكثر من تلك التي تعلن عنها حكومة مصر. ستتدفق مليارات من الدولارات في بلد عطشان -أو تم تعطيشه- للنقد الأجنبي، نتيجة هروب الأموال للخارج. وهو ما سيتغنى به المسؤولون. ستأتي رؤوس الأموال لتؤسس مشروعات نفط وطاقة وسلع غذائية وموانئ. فكيف سينعكس ذلك على حياة المصريين؟ بالسلب.
أنت تحصل فقط على ما تحلم به.. إذا حلمت برؤوس أموال، ستأتي. وإن حلمت بمواطن مصري سعيد فسيكون لك هذا. ولكن حتى الآن، يبقى حلم المصري السعيد مستحيلا. ما زالت النخبة الحاكمة تقصر حلمها على استجلاب رأس المال الأجنبي أملا في أن يجلب ذلك الرخاء. في حين تعلمنا الخبرات التنموية في العالم أن الرخاء الذي يأتي مع تلك الأموال لن يفيد الشعب العريض إلا اذا اتخذت الحكومات من التدابير التي تضمن ذلك، وإلا بقيت الأموال ورخاؤها الوفير حكرا على فئة صغيرة نافذة قوية قريبة من الحكام، تاركة المصري تعيسا فقيرا.
أي استثمار أجنبي سيأتي؟
مبدئيا، تنبؤنا القطاعات الاقتصادية التي خبرنا أن الأموال ستتدفق إليها بأمرين: أولا: أنها كثيفة رأس المال، أي تحتاج إلى كم وفير من الأموال لخلق عدد ضئيل من فرص العمل. وهو نقيض ما نحتاجه في مصر والني تعاني نقصا في الأموال ووفرة في الأيدي العاملة. وهكذا من ناحية، سيستمر نفس نمط توزيع الدخل. أي تذهب عوائد المشروعات في شكل أرباح مما يعزز من شأن أصحاب رأس المال على حساب أصحاب الأجور. ومن ناحية أخرى، لن تنخفض البطالة بين القاعدة العريضة من الشباب المتعلم الحانق الثائر. لأن المعروض من الوظائف -رغم المبالغ الضخمة المتدفقة- أقل من أن يستوعب تلك الملايين من خريجي الجامعات والمعاهد العليا الفنية والصناعية والزراعية.
وحتى من يجد عملا، فلن ينجو من فقره. حيث تفترض طبيعة تلك المشروعات أن يكون الطلب على العمل معظمه في شكل وظائف مؤقتة، وتتركز أساسا في أعمال البناء. هؤلاء، كما تعلمنا علي يد الدكتورة نجلاء الاهواني، وزيرة التعاون الدولي واستاذة الاقتصاد القديرة، يبقون الأكثر فقرا لأن وظائفهم مؤقتة ومحدودة بمدة بناء المشروع. وهؤلاء يعانون مرتين. أولا بسبب غياب سياسات تكفل لهم تعويضا عن فترات البطالة، وحدا أدنى للأجر عن كل ساعة عمل. وثانيا، بسبب أن أولئك العاملين غير مؤمن عليهم لا صحيا ولا اجتماعيا، كما يلاحظ عن حق وزير التخطيط، أشرف العربي. فإذا مرضوا أو شاخوا لا يجدون علاجا ولا دخلا. ومع ذلك نجد أن الحكومة اختارت ألا تكفل لهم أي ضمان صحي واجتماعي (وهو ما يعاني من غيابه 90٪ من العاملين في القطاع الخاص). وهكذا يظل مستوى معيشتهم رهن قوة بدنهم ووجود طلب على عملهم، وإلا جاعوا وجاعت أسرهم، وهو ما يحدث طبعا طوال الوقت، فيظلون رهن فقر وجهل يورثونه لأبنائهم وأبناء أبنائهم. إذن المحصلة الأولى هي وظائف قليلة مؤقتة بأجور زهيدة في مقابل أرباح كبيرة لأصحاب المشروعات.
المعيار الثاني لتحقيق أهداف المؤتمر: هو رفع قدرة مصر الاقتصادية على النمو المتواصل، وهو ما يأتي بزيادة الإنتاج من السلع القابلة للتجارة إما لزيادة التصدير أو تخفيض الواردات أو كليهما. فالتصدير ضرورة لتأمين تدفقات مستقرة من النقد الأجنبي، لتمويل وارداتنا الغذائية واحتياجاتنا الصناعية، بدلا من الاعتماد على عائدات السياحة أو الاستثمارات الاجنبية. فقد رأينا الأولى تنهار والثانية تهرب خارج البلاد بسبب عدم الاستقرار السياسي، بعكس الباقيات الصالحات من المصانع والمزارع والمعامل.
ومن المؤسف أن مصر لم تضع سياسة تصنيعية أو زراعية لتروجها في المؤتمر، مكتفية بسياسة "كل ما يأتي خير". وبالتالي لن تخلق تلك المشروعات تيارا مستقرا من الدولارات الوافدة إلى مصر ولن توفر سلعا محلية بديلة للمستوردة. بل على العكس، إذ تسمح القوانين المصرية لتلك الشركات الأجنبية التي ستعمل في مصر بأن تحول أرباحها إلى دولها الأم، وبهذا نجد أنفسنا في معكوس المطلوب لإنعاش الاقتصاد المصري، أي ستفقد البلاد سنويا مليارات الدولارات. والخلاصة أن المحصلة الثانية وهي زيادة قدرة الاقتصاد على خلق رفاه اقتصادي مستدام ومعتمد على موارده الذاتية أيضا مستبعدة.
المصري السعيد في حده الأدنى هو وصف لشخص ينعم بوظيفة آمنة لائقة، ضامنا خدمة علاجية راقية له ولأولاده وتعليما مجانيا يساعدهم على الترقي الاجتماعي. المصري التعيس هو نتاج المؤتمر وما صاحبه من سياسات دلع وإفساد المستثمرين بشكل لم يحلموا به وقت مبارك على حساب أغلبية الشعب.
ستأتي الدولارات علامة على نجاح المؤتمر وعلى إيمان دول الخليج بالاقتصاد المصري كمصدر مستقر وواعد لتراكم الأرباح. ولكن على حساب البشر. سيبقى المصري حزينا، فقيرا على حاله أو أتعس. ويبقى استقراره واستقرار المنطقة على كف عفريت. وعندها لن نشهد الثورات الناعمة البريئة التي تغنينا بها خلال السنوات الأربع الماضية.