دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- كشف الباحثون عن روابط بين ما سبق أقدم نظام كتابة في العالم والتصاميم الغامضة والمعقّدة التي خلّفتها الأختام الأسطوانية المنقوشة المنتشرة على ألواح طينية قبل حوالي 6000 عام.
يعتبر العلماء أنّ الكتابة المسمارية هي أول نظام كتابة استخدم البشر أحرفه ذات الشكل الإسفيني، لنقش لغات قديمة مثل السومرية على ألواح طينية، بدءًا من حوالي 3400 قبل الميلاد. كما يُعتقد أنّ نظام الكتابة نشأ في بلاد ما بين النهرين، حيث تطوّرت فيها أقدم حضارة معروفة في العالم تُعرف اليوم بالعراق الحديث.
لكن قبل الكتابة المسمارية، كان هناك نص قديم يستخدم علامات تصويرية مجرّدة تُسمى الكتابة المسمارية الأوّلية. ظهرت لأول مرة بين حوالي 3350 و3000 قبل الميلاد بمدينة "أوروك"، في جنوب العراق الحديث.
لكن أصول ظهور هذا النوع من الكتابة الأولية كانت غامضة، ولا تزال العديد من رموزها غير مفهومة.
وفوجئ الباحثون الذين أجروا تحليلاً دقيقاً للرموز المسمارية الأولية باكتشاف أوجه تشابه عندما درسوا نقوش الأختام الأسطوانية التي اختُرعت في "أوروك" عام 4400 قبل الميلاد، واستُخدمت لطباعة الزخارف على الطين اللين، وتطابق بعض الرموز، التي يبدو أيضًا أنها تنقل المعاني ذاتها في ما يتعلّق بالمعاملات والتجارة القديمة.
ونشرت مجلة Antiquity الثلاثاء، دراسة تفصيلية عن أوجه التشابه.
وقالت سيلفيا فيرارا، الأستاذة بقسم فقه اللغة الكلاسيكية والدراسات الإيطالية في جامعة بولونيا، والمؤلفة الرئيسية للدراسة، إنّ "نتائجنا توضح أنّ التصاميم المنقوشة على الأختام الأسطوانية مرتبطة بشكل مباشر بتطوّر الكتابة المسماريّة البدائية في جنوب العراق. كما تظهر كيف تم دمج المعنى المرتبط في الأصل بهذه التصاميم في نظام الكتابة".
يمكن لنتائج التحليل أن تغيّر الطريقة التي يفهم بها العلماء كيفية اختراع الكتابة، وما يوحي به ذلك عن تقدم الحضارات القديمة التي طوّرت تقنيات مثل المحاسبة، والكتابة، منذ آلاف السنين.
من المحاسبة إلى الكتابة
كانت "أوروك"، المعروفة الآن باسم الوركاء، إحدى أقدم المدن التي نشأت في بلاد ما بين النهرين، وكانت بمثابة مركز للتأثير الثقافي الذي يمكن تتبعه، من ما هو الآن جنوب غرب إيران إلى جنوب شرق تركيا.
وتم اختراع الأختام الأسطوانية واستخدامها لأغراض إدارية في المدينة القديمة.
كان صُنّاع الأختام ينقشون التصاميم على الأسطوانات التي يمكن بعد ذلك دحرجتها عبر الطين الرطب لنقل الزخارف. وقد استخدم مجتمع ما قبل القراءة والكتابة الأختام على نطاق واسع في نظام محاسبي مبكر ساعد على تتبّع الإنتاج، والتخزين، وحركة المحاصيل، والمنسوجات. ووفقاً لمؤلفي الدراسة، كانت الزخارف الموجودة على الأختام بمثابة شكل مبكر من أشكال العلامات التجارية لتحديد السلع.
ووثقت أنظمة المحاسبة التي تطورت خلال الألفية الرابعة قبل الميلاد، أيضًا تجارة السلع ماديًا باستخدام العلامات، والألواح الرقمية، والرموز، وكرات الطين المسماة الفقاعات.
لطالما اعتقد الباحثون أنّ الكتابة المسمارية الأولية تطوّرت من أساليب المحاسبة المبكرة هذه، لكن لم يكن هناك رابط محدّد يوضح كيف حدث الانتقال. وبخلاف الأختام الأسطوانية، لم يتم العثور على مئات العلامات الأيقونية المنسوبة إلى الكتابة المسمارية البدائية إلا على ألواح في جنوب العراق.
وأوضحت فيرارا: "لقد تم الاعتراف منذ فترة طويلة بالعلاقة الوثيقة بين الختم القديم واختراع الكتابة في جنوب غرب آسيا، لكن العلاقة بين صور الأختام المحدّدة وأشكال العلامات كان من النادر استكشافها. وكان السؤال الذي انطلقنا منه: هل ساهمت صور الأختام بشكل كبير باختراع العلامات في الكتابة الأولى بالمنطقة"؟
قام الفريق بمقارنة زخارف الأختام الأسطوانية مع الصور المسمارية البدائية لمعرفة ما إذا كان أي منهما يرتبط من حيث الشكل والمعنى. وأشارت فيرارا إلى أنّ الباحثين توقعوا إقامة روابط هامشية وغير مباشرة، لكنهم عوض ذلك حددوا صور الأختام التي بدت وكأنها تتحول مباشرة إلى علامات مسمارية بدائية، ما يشير إلى أن الأختام لعبت دورًا في التطوّرات التي أدّت إلى ولادة أول نظام كتابة.
وقالت كاثرين كيلي، الباحثة المشاركة في الدراسة وزميلة البحث بقسم فقه اللغة الكلاسيكي والدراسات الإيطالية في جامعة بولونيا، إن الصور ذات الصلة الأقوى كانت مرتبطة بنقل الجرار والقماش. وأظهرت الرموز صورًا لمنسوجات وأواني هامشية محمولة في شبكات، كثير منها يتحرك نحو واجهات المباني. وبحسب مؤلفي الدراسة، فقد جرت عمليات تبادل لهذه العناصر بين المدن أو داخلها، ويُحتمل أن تكون شملت معابد مختلفة، ما جعل الأختام والألواح تساعد على توثيق المعاملات.
وأفادت كيلي وزميلة البحث المشاركة في الدراسة ماتيا كارتولانو، وهي زميلة باحثة في جامعة بولونيا، ببيان مشترك: "ركزنا على صور الأختام التي نشأت قبل اختراع الكتابة، بينما استمرت في التطور إلى فترة ما قبل الكتابة".
وتابع البيان: "سمح لنا هذا النهج بتحديد سلسلة من التصاميم المتعلقة بنقل المنسوجات والفخار التي تطورت لاحقًا إلى علامات مسمارية بدائية مقابلة".
تأسيس رابط قديم
قال إيكارت فراهم، أستاذ اللغات وحضارات الشرق الأدنى بجامعة ييل، غير المشارك في الدراسة، إن مثل هذه الصور المتشابهة في الأختام والعلامات المسمارية الأولية تشير إلى علاقة وثيقة بين الإثنين.
ولفت فراهم إلى أنه "لأول مرة، تثبت هذه الدراسة بشكل مقنع أن عددًا من العلامات (المسمارية الأولية) لها أوجه تشابه وثيقة في مجموعة صور الأختام. وحتى بشكل أكثر طموحًا، يسعى المؤلفون إلى إظهار من خلال تحليل سياقي أنه يمكن العثور على مجموعة من الصور على الأختام في تكوينات مماثلة على ألواح طينية منقوشة".
من الواضح أنّ الأسلاف الذين عاشوا في بلاد ما بين النهرين استخدموا الأختام بالتوازي مع الكتابة لآلاف السنين، لذلك لم يتم استبدال شكل واحد من أشكال التوثيق بشكل طبيعي بالآخر.
ويتوق الفريق الآن إلى دراسة أنواع المنتجات التي كانت تُنقل داخل الأوعية في الشباك، ولماذا استمرت الصور على مساحة جغرافية كبيرة لقرون عدة، ولماذا كانت التبادلات مهمة بما يكفي لتوثيقها على الألواح الطينية.
ووفقًا للدكتور جيه كال جونسون، أستاذ تاريخ المعرفة بالعالم القديم في جامعة فراي ببرلين، جونسون غير المشارك في الدراسة الجديدة، اعتقد الباحثون في السابق أنّ الرموز البسيطة ساهمت بنظام الأرقام المستخدمة في العلامات المسمارية البدائية، في حين كانت الرموز المعقّدة التي تحمل نقوشًا وعلامات أخرى تشكّل الأساس للعلامات غير الرقمية، لكن تبيّن أنها ليست هذه الحال.
وقال جونسون: "هذه الفجوة في قصة الأصل المتمثلة بالسؤال التالي: من أين جاءت العلامات المسمارية الأولية غير الرقمية؟ بقي من دون إجابة. رغم أن الناس قالوا غالبًا إن صور العلامة غير الرقمية يجب أن تأتي من ختم (رموز) أو أي نوع آخر من التمثيل، إلا أنه لم يكن هناك سوى القليل من العمل لتحديد السلائف بشكل ملموس. لكن هذه الورقة هي خطوة مهمة في تحديد تلك السلائف الملموسة".
فك رموز غير معروفة
أوضح مؤلفو الدراسة أنه كلما اكتشف الباحثون المزيد عن المدن القديمة مثل أوروك والصلات بين الأيقونات التي استخدمتها الحضارات القديمة، كلّما تمكنوا من فكّ رموز مئات من الصور المسمارية البدائية غير المعروفة.
وأشار فراهم إلى أنه "نظرًا للطبيعة المجردة في كثير من الأحيان للعديد من العلامات المسمارية البدائية، وهو تناقض قوي مع الهيروغليفية المصرية الأكثر شبهاً بالصور، فيحتمل ألا يتم التوصل إلى إجماع كامل حول ما تمثله هذه العلامات ومن أين نشأت، لكن هذا لا يعني أنه لا ينبغي للمرء أن يحاول استكشاف القضية".
ولفتت فيرارا إلى أنه يبدو أن الكتابة تقنية ضرورية تتطور بشكل طبيعي بمرور الوقت، لكنها لم تُخترع إلا على نحو مستقل، أي من دون معرفة بوجود الكتابة، بضع مرات في تاريخ العالم. لذا، كان من المثير للاهتمام لفترة طويلة معرفة الظروف الاجتماعية والتكنولوجية التي شجعت على القفزات المفاهيمية والإدراكية التي أدت إلى اللغة المكتوبة.
وتابعت: "في حين لا تزال هيئة المحلفين في حيرة بشأن مقدار لغة الترميز التي كانت في المرحلة الأولية من الكتابة المسمارية، فإن الأهم من ذلك أنها أدت إلى الكتابة الحقيقية خلال بضعة قرون، وبالتالي فإن اختراع الكتابة المسمارية الأولية يشكل نقطة تحول".
وخلص مؤلفو الدراسة إلى أنّ فهم أن الزخارف من الأختام مرتبط بشكل مباشر بالرسوم التوضيحية التي من شأنها أن تضع الأساس لنظام الكتابة الأول، يُظهر كيف تم نقل المعنى من الزخارف إلى النص.