دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تفاجأ غونتر باولي بالصمت المخيّم على متن سفينة "إم إس بورّيما" التي تعمل على الطاقة الشمسية، في الأيام الأولى من إبحارها.
وقال رجل الأعمال والاقتصادي البلجيكي في مقابلة مع CNN إنه "عندما لا يكون لديك محرك يعمل، يسود الصمت. يغمرك شعور حقيقي بالرهبة والصمود، ولديك الكثير من الوقت أمامك حتى تفكر بذلك"، لافتًا إلى أنّ "شعورًا قويًا بمدى ضعفك يجتاحك، وأنه من الأفضل استخدام ما لديك بعناية".
وجوهر فلسفة سفينة "بورّيما" يقوم على استخدام الموارد المحدودة بشكل فعال، أي مفهوم قارب يتمحور حول البحث البيئي الهادف إلى إظهار كيف يمكن للتكنولوجيا المستدامة إحداث ثورة في صناعة الشحن.
وتُنقل نسبة أكثر من 80% من التجارة العالمية بحرًا، إلا أنّ الملاحة البحرية تُخلّ بالنظم البيئية البحرية، وتساهم بتحمّض المحيطات، وتتسبّب بانبعاثات ثاني أكسيد الكربون الذي يفوق المعدل الناجم عن الطيران سنويًا.
وأبحرت السفينة من أوساكا باليابان في 18 ديسمبر/ كانون الأول، وعلى متنها طاقم صغير، ويُتوقع أن يكون لها عشرات المحطات في القارات الخمس. وستكمل "بورّيما" طوافها البحري الممتد لثلاث سنوات قبل عودتها إلى اليابان، بالتزامن مع معرض إكسبو العالمي 2025.
إلهام التصميم الفني
وتُعتبر السفينة بمثابة دراسة حالة في الاستدامة. فتسمح مزرعة صغيرة جدًا لباولي بزراعة طحالب وفطر سبيرولينا الصالح للأكل أسفل سطح السفينة، فيما تمنع شبكات الفقاعات الهوائية الصيد الجائر عن طريق فصل الأسماك بالوزن، ثم إطلاق الإناث المتكاثرة، الأثقل عادة بسبب البيض الذي تحمله.
وبالإضافة إلى كونها تعمل بشكل كبير من خلال الألواح الشمسية، ستزوّد السفينة قريبًا بفلتر يعزل ويركز جزيئات النانو بلاستيك عن مياه البحر، ثمّ يحولها إلى وقود هيدروجين.
ويعتقد باولي أنّ ميزات التصميم على متن السفينة التي يبلغ طولها 118 قدمًا، وعرضها 79 قدمًا، توازي أهمية إنتاج الطاقة الخضراء، عندما يتعلق الأمر بالترويج لرسالة بورّيما البيئية.
واستُوحيت التصاميم الداخلية للغرفتين الأساسيتين في بورّيما، وهما جناح كبار الشخصيات، والقاعة الرئيسية، من دمى ماتريوشكا الروسية، والأوريغامي الياباني، وسكاكين الجيش السويسري.
ومع وجود مساحة محدودة على متنها، ألهمت الدمى سلسلة من حلول التخزين التي تنزلق بسهولة وتتداخل لتوفير المساحة. في موازاة ذلك نسخت تشعّبات الأوريغامي إلى وحدات رفوف مختلفة، ومناطق جلوس، وطاولات يمكن طيّها داخل الجدران مثل الأدراج فتُصبح غير مرئية.
أما قدرة سكين الجيش السويسري على التكيّف فتنعكس في القاعة الرئيسية متعدّدة الاستخدامات، التي يمكن تحويلها إلى فصل دراسي، أو صالة عرض، أو مكتبة، أو قاعة طعام.
وقد تبدو هذه العوامل الثلاثة المؤثرة متباينة بداية، لكن باولي أوضح مدى ترابطها من خلال الاستخدام الفعال والمبدع للحد الأدنى من المواد. وأضاف أنه استوحى أفكارًا من كل منها "لتحويل" تصاميم بورّيما الداخلية.
وقال باولي إنّ "السفينة عبارة عن مجموعة مدمجة من الأدوات العملية في غرفة واحدة"، مضيفًا أنها مستوحاة من الفن أيضًا.
ويؤمن باولي أنّ "الفنان العظيم هو أشبه بهوائي عظيم في المجتمع"، لذا أخذ فكرة "الجنة الثالثة" من الرسام والمنظر الشهير مايكل أنجلو بيستوليتو لوضع نموذج لتصميمه، الهادف إلى تقارب متوازن بين الطبيعة والتكنولوجيا. وبدوره، يعتقد الفنان الإيطالي البالغ من العمر 88 عامًا، في حديثه مع CNN أن السفينة توفر "إمكانية" تحويل مفهومه إلى حقيقة واقعة.
وقال بيستوليتو لـCNN إنّ "أزمة المناخ هي الوضع الذي نجد أنفسنا فيه بعد تطوير التكنولوجيا الخاصة بنا، لكن كلما تحررنا أكثر، كلما تقدمنا، وكلما علينا تحمّل مسؤولية أكبر"، لافتًا إلى أن "الفن هو تفاعل بين الاستقلالية والمسؤولية".
وتعرض أعمال بيستوليتو مع أعمال لفنانين آخرين على متن السفينة التي وصفها بأنها "إعادة دمج التكنولوجيا بالطبيعة".
وأوضح باولي أنّ القوة الدافعة وراء هذا المشروع كانت هذا الإحساس بالمسؤولية تجاه البيئة والمجتمعات التي تتحمل تداعيات الممارسات غير المستدامة. ولفت إلى "أنّنا أجرينا الكثير من الدراسات التحليلية التي تناولت القضايا البيئية، وغالبًا ما يؤدي الإكثار من ذلك إلى الشلل. كنت أعرف أن كل ما نقوم به أقل بكثير من المطلوب، ولكنه أيضًا بعيد جدًا عما هو ممكن".
وقال: "لا يمكننا تحسين ما لدينا فقط"، متابعًا أنه "عليك استخدام وعيك وإبداعك لتخيل الشيء التالي، والشيء التالي لا يمكن أن يكون مجرد تحسين. لذلك قررت البدء بإنشاء مشاريع كانت تعتبر مستحيلة".
مهمة تثقيقية
والتعليم التفاعلي هو جوهر رحلة بورّيما التي تمتد لثلاث سنوات. ويأمل باولي، في العديد من محطاته في جميع أنحاء العالم، بالتواصل مع أفراد وأكاديميين وقادة الصناعة خلال لقاءاته لشرح تصميم السفينة لهم. وسيتم استخدام القاعة الرئيسة، عند تحويلها إلى فصل دراسي، لإطلاع الأطفال على الابتكارات الموجودة على متنها، على أمل إلهام الأجيال المستقبلية.
لكن باولي يأمل أيضًا بإحداث تغيير في المستقبل القريب، مع توقّعه تعميم بعض تكنولوجيا السفينة على قطاع الشحن. وبحلول عام 2024، قال باولي، إنه من المقرر تركيب مرشحات البلاستيك النانوية الخاصة به على ألف سفينة في البحر الأبيض المتوسط لبدء حملة تنظيف على نطاق واسع. وأضاف أنه بحلول عام 2025، من المقرّر أن يطلق المغرب أسطولًا من السفن المجهزة بتكنولوجيا باولي للصيد بالفقاعات الهوائية.
وخلص إلى أنّه "لا يكفي ابتكار شيء ما. بمجرد قيامك بشيء فريد، أضْفِ عليه الطابع الديمقراطي واجعله متاحًا للجميع"، مضيفًا أنّ "هناك شعور بالتمكين عندما تدرك أنه يمكن استخدام هذه التكنولوجيا لمساعدة المجتمعات التي تعتمد على الممارسات غير المستدامة".