دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- ذهبيّ اللون، خشن الملمس، ولزج المظهر ،وطيب المذاق بالأحرى حلو المذاق في حال قدم كطبق منفرد.
لكن التنوع الكبير في طبق البولنتا، العصيدة المصنوعة من دقيق الذرة، جعل منه نجمًا مشعًا في عالم الطهي، لا سيّما عندما يضاف إلى هذا الطبق الشهير في إيطاليا عدد لا حصر له من المكونات والنكهات.
فطبق البولنتا يمكن أن يزيّن بكل أنواع اللحوم الحمراء والبيضاء مثل لحم الغزال، والأسماك، والأرانب، والخنازير البرية، ولحم العجل المطهو ببطء، إلى الفطر، وصلصة الطماطم، والجبن المذاب. كما يصنع منه الحلويات أيضًا، مثل البسكويت، والكعكات والفطائر.. حتى أنّ البعض يأكل البولنتا مع النوتيلا.
وفي الإمكان تقديمه بأشكال عديدة، فهو قد يكون مطاطيًا، أو لزجًا، أو مقرمشًا، أو كريميًا.
تتوافر البولنتا في جميع أنحاء إيطاليا، لكن هناك ثلاث مناطق رئيسية في شمال البلاد حيث يحظى هذا الطبق فيها بشعبية خاصة، وهي أقاليم فينيتو، ولومباردي، وبييمونتيه.
شكرًا كريستوفر كولومبوس
اليوم، يُعتقد أنّ البولنتا، (العصيدة المصنوعة من دقيق الذرة) الغذاء الرئيسي الأكثر شعبية في إيطاليا بعد الباستا والبيتزا. يظل في جوهره طبقًا جماعيًا متواضعًا، وكان يؤكل خلال سنوات الحرب العالمية الثانية بشكل رئيسي، للضرورة.
رغم أنّ مؤرخي الطعام يشيرون إلى أنّ الرومان القدماء كانوا يأكلون نوعًا أكثر ليونة من البولنتا، مصنوع من الحنطة المطبوخة والمطحونة، فإنّ النسخة التي يعرفها الناس ويحبونها اليوم عبرت جذورها المحيط الأطلسي، من الأمريكتين.
بدأ كل شيء عندما أحضر كريستوفر كولومبوس محصول الذرة "الغريب" معه إلى القارة العجوز التي لم تكن على دراية بهذا المنتج، حتى رحلته في عام 1492.
وبحسب الشيف أميديو ساندري، مؤرخ الطعام أيضًا، استوردت إيطاليا الذرة لاحقًا من المبشرين العائدين من الأمريكتين إلى منطقة فريولي.
انتشرت الزراعة على نطاق واسع في القرن السابع عشر في فينيتو ولومباردي، كي تحل مكان المحاصيل التقليدية وتُحدث ثورة زراعية. اليوم، هناك حوالي عشرة أنواع من الذرة الإيطالية المزروعة في البلاد.
وأشار ساندري إلى أنّ "المزارعين أدركوا أنّ الذرة لديها إنتاجية أعلى ودورة زراعة أقصر، مقارنة بالدخن والجاودار والقمح، وأنها تعطي قوة كافية للعمل في الحقول".
وتابع: "لكن كان لهذا النظام الغذائي المعتمد على عصيدة مصنوعة من دقيق الذرة بعض الآثار الجانبية الخطيرة".
يقال إن أهل الشمال الإيطالي أدمنوا على دقيق الذرة المسلوق لدرجة أنهم أصيبوا بمرض غريب اسمه البلاغرا، الناجم عن نقص النياسين، المعروف باسم فيتامين ب 3. وعانى العديد من الأشخاص من أعراض الخرف، والإسهال، والطفح الجلدي، كنتيجة لذلك.
غير أنّ التقدم في البحوث الغذائية في مطلع القرن العشرين ومنتصفه، والأنظمة الغذائية الأكثر تنوعًا، غيّرت المعادلة، وفي السنوات التالية، اكتشف الإيطاليون فوائد تضمين طبق البولنتا وجبة متوازنة.
أولاً، إنه خالٍ من الغلوتين، ما يجعله مثاليًا لمن يعانون من مرض الاضطرابات الهضمية. ويقول خبراء الصحة إنه سهل الهضم ومنخفض السعرات الحرارية.
وبرأي آنا ماريا بيليغرينو من أكاديمية المطبخ الإيطالية: "إنه مغذي جدًا، وهناك العديد من الأصناف والألوان تبعًا للقوام وأنواع اللحوم التي تضاف إليه، ومنطقة الإنتاج، ونوع الذرة". وأضافت أنه "نظرًا لمذاقه الرقيق، يتم دومًا تقديمه كمرافق للأطعمة الأخرى".
"إنه جزء من حمضنا النووي"
هناك نوعان من البولنتا بشكل أساسي: ساخنة وشبه سائلة، أو صلبة وتقدم على شكل أعواد مستطيلة، وهي أطعمة تؤكل على شكل أصابع إما مقلية بالزبدة أو زيت الزيتون، أو مشوية ثم تترك لتبرد.
في المناطق الجبلية الشمالية، في بييمونتيه، ولومباردي، وفالي داوستا، يكون لونها أصفر كثيفًا ومشرقًا. جنوبًا، في الوديان، يكون أكثر نعومة وعاجي اللون، في حين أنها تتمتع بلون مخملي أبيض على طول ساحل فينيتو، نتيجة صنعها من الذرة البيضاء الممتازة التي تتناسب جيدًا مع أسماك القد والرنجة والحبار.
عندما يتعلق الأمر بالمراكز الحضرية، فإن مدينتي بيرغامو وبريشيا تعتبران المكان حيث تزدهر فيه "عبادة" البولنتا حقًا.
وقال ماركو بيروفانو، صاحب مطعم PolentOne الصغير، إنه يقدم البولنتا الجاهزة مع لمساته الإبداعية "لأنها جزء من حمضنا النووي،إسوة بالـAmatriciana عند الرومان". وتابع "إن وجبات غداء البولنتا طقس ديني لدينا أيام الآحاد".
يقدم مطعمه أطباقًا عصرية من المطبخ الإيطالي الكلاسيكي، حيث يزيّن طبق البولنتا في مطعمه، بالزبادي، ولحم الخنزير المقدد، والسلطة، والسكر المرشوش، وجبنة الموزاريلا.
الطيور الصغيرة.. جدل كبير
رغم بساطتها الواضحة، إلا أن البولنتا غير محصنة ضد الخلافات بين المطابخ، لا سيما عندما يتعلق الأمر بما يضاف على الطبق.
وبين الإضافات المفضلة في شمال إيطاليا هي أوسي أي "الطيور الصغيرة"، وهو هوس أدى إلى دعاوى قضائية متعددة، وأثار حفيظة دعاة الحفاظ على الحياة البرية، ضمنًا الصندوق العالمي للطبيعة في إيطاليا.
في عام 1992، حظر الاتحاد الأوروبي صيد أنواع الطيور المحمية مثل العصافير، والقلنسوة السوداء، والزرزور، والقبرة، ونقار الخشب، وطيور أبو الحناء الحمراء، والعندليب، أي الطيور التي كان الصيادون ومحبو البولنتا يفضلونها في السابق.
الأنواع الوحيدة التي يمكن اصطيادها وأكلها بشكل قانوني هي خمسة أنواع من طيور القلاع والزرزور والقبرة.
ثم جاءت ضربة قوية أخرى لعشاق البولنتا في عام 2005، عندما حظر الاتحاد الأوروبي جميع أشكال تجارة الطيور البرية، ضمنًا الأنواع المسموح بصيدها. وهذا يعني أن الصيادين لم يعد يسمح لهم ببيع صيدهم للمطاعم ومعارض الطعام، لذلك قام العديد من أصحاب الأعمال بإزالة الطبق من قوائم الطعام.
لكن الأسر الخاصة استمرت بالاحتفال برحلة الصيد في عطلة نهاية الأسبوع باستخدام أواني البولنتا المتصاعدة على البخار، ويقال إن الصيادين استمروا ببيع طيورهم إلى الحانات "الحديثة" خلسة.
وعلق بييرو دومينوني، صاحب حانة الكوخ الجبلي ريفوجيو سيسبيدوسيو في قرية كاميراتا كورنيللو، القريبة من بيرغامو: "الحقيقة أننا كنا نأكل دومًا الطيور الصغيرة، التي يسمح بها القانون بالطبع".
وتابع: "إنه (هذا الطبق) جزء من روحنا، لا يمكننا أن نتخلى عن ذلك. بدأت حركة رفع الحظر مباشرة من قريتنا. تظل الطيور المحمية محظورة ولكن جميع الكائنات القانونية الأخرى تعتبر صيدًا عادلاً، ضمنا طيور الدج، والشحرور، والطيور البرية، والشناص، والدراج، والطيور المائية".