دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- لجأ الناس الذين عاشوا في شبه الجزيرة العربية قبل آلاف السنين، إلى باطن الأرض بغية التغلب على الحرارة. ويُحتمل أنهم توقفوا هناك أثناء تنقلهم بين الواحات والمراعي، ثم توغلوا في أنفاق جوفية واسعة، حيث تدفقت الحمم المنصهرة يومًا قبل ملايين السنين، بحسب ما ذكرته دراسة حديثة.
اكتشف علماء الآثار أنه بدءًا من العصر الحجري، نزل الرعاة الذين عاشوا في العصر الحجري الحديث إلى هذه الأنفاق الشاسعة التي تُعرف باسم أنابيب الحمم البركانية، واحتلّوها. كان يمكن أن يوفر الهواء البارد تحت الأرض فترة راحة من الشمس والرياح، ولآلاف السنين، كان البشر يحتمون مع ماشيتهم في الأنفاق. وقد ترك الرعاة وراءهم بعض الأغراض، بل وقاموا بنحت صور على الجدران الصخرية، بحسب ما نشره باحثون بمجلة PLOS One في 17 أبريل/ نيسان.
في حقل الحمم البركانية "حرّة خيبر"، الذي يقع شمال المدينة المنوّرة في المملكة العربية السعودية ويبعد عنها حوالي 78 ميلاً (125 كيلومترًا)، يوجد نظام أنفاق يُسمى أم جرسان، وهو الأطول في المنطقة. لم يؤكد العلماء بعد عمر الحمم البركانية التي شكّلت هذا النظام، لكن دراسة أجريت عام 2007 أشارت إلى أن عمرها حوالي 3 ملايين سنة. تمتد أم جرسان على مسافة ميل واحد (1.5 كيلومتر تقريبًا)، مع ممرات يصل ارتفاعها إلى 39 قدمًا (12 مترًا) وعرضها يصل إلى 148 قدمًا (45 مترًا).
وعثر علماء الآثار في أم جرسان أخيرًا على عظام حيوانات يعود تاريخها إلى ما بين 400 وأكثر من 4000 عام، وبقايا بشرية يتراوح عمرها بين 150 وحوالي 6000 عام. وعثر فريق البحث أيضًا على قطع من القماش، وقطع من الخشب المنحوت، وعشرات الأدوات الحجرية، وهو أول دليل على أن البشر كانوا يستخدمون الأنفاق قبل 7000 عام بالحد الأدنى.
وقال مؤلف الدراسة الرئيسي الدكتور ماثيو ستيوارت، وهو زميل أبحاث بمركز الأبحاث الأسترالي للتطور البشري في جامعة غريفيث بأستراليا: "علمنا من التقارير السابقة أنّ الحفريات كانت محفوظة في الموقع".
وأوضح ستيوارت لـCNN: "رغم ذلك، لم نتوقّع العثور على دليل أن الإنسان كان موجودًا هنا وخلّف فنونًا صخرية، ومصنوعات يدوية حجرية، وهياكل حجرية، وأواني فخارية". وتابع: "لقد استخدم الناس أنابيب الحمم البركانية هذه وعاشوا فيها على مدى آلاف السنين. وبينما تركز معظم الأبحاث في شبه الجزيرة العربية على المواقع السطحية، فإن المواقع تحت الأرض مثل أم جرسان توفر إمكانات هائلة لسد بعض الثغرات في البيانات".
وأشار غيوم شارلو، عالم الآثار في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، والذي لم يشارك في الدراسة إلى أن هذا الاكتشاف يسلط الضوء على أهمية أم جرسان والأنفاق الأخرى في فهم الانتشار البشري بالمنطقة. وأضاف شارلو الذي لم يدرس المواقع القديمة في المملكة العربية السعودية أن المعرفة حول المناخ القديم والبشر في شمال غرب الجزيرة العربية محدودة، "خصوصًا خلال المرحلة الانتقالية بين العصر الحجري الحديث وبداية الألفية الثانية".
وأوضح شارلو لـCNN أنه في هذه المرحلة الزمنية تقريبًا، كان السكان المحليون يستقرون حول الواحات التي تشكلت حديثًا. وأشار إلى أن ظهور هذه الملاجئ الصحراوية سيشكّل أنماط الهجرة البشرية في المنطقة لآلاف السنين. معتبرًا أن "المساهمة الرئيسية لهذا المشروع البحثي المبتكر والكبير تتمثّل بأنه يسلط الضوء على الاستخدام طويل الأمد، وربما الاحتلال المؤقت، لهذا النوع من الكهوف التي ظلت غير مدروسة، وإمكاناتها الهائلة لا سيما لفهم السياقات البيئية القديمة".
"الجزيرة العربية الخضراء"
منذ قرابة 15 عامًا، قام ستيوارت وزملاؤه بتجميع الأدلة حول الحياة البشرية القديمة في شبه الجزيرة العربية، ومعظمها عثر عليها في مواقع محيطة برواسب البحيرات. وقبل حوالي 400 ألف سنة، أشبعت فترات الرطوبة المتكررة الصحارى العربية بتساقط الأمطار. وكان ستيوارت وباحثون آخرون قد سبق وكتبوا في مجلة Nature أنه خلال مراحل "الجزيرة العربية الخضراء" هذه، كثرت البحيرات، والبرك، وازدهرت المناظر الطبيعية بالنباتات المورقة، ما أدى إلى انتشار البشر المهاجرين في جنوب غرب آسيا.
لكن المرحلة الأخيرة من "الجزيرة العربية الخضراء" كانت قبل حوالي 55000 سنة، والبيئات الصحراوية القاسية لا تتوافق مع الأدلة الأثرية. وأشار ستيوارت إلى أنه في حين يتم حفظ الأدوات الحجرية بشكل جيد في الصحاري الجافة، فإن العظام والمواد العضوية الأخرى تتحلل بسهولة وتدمّر بسبب التآكل والحرارة الشديدة والبرودة، ما لا يترك الكثير للباحثين من أجل تفسيره.
وقال ستيورات: "لتحقيق هذه الغاية، قررنا في عام 2019، البحث في الأماكن الموجودة تحت الأرض حيث يمكن الحفاظ على المواد العضوية والرواسب بشكل أفضل".
وحوّل العلماء أنظارهم إلى أم جرسان. وسبق أن تم رسم خريطة للموقع من قبل هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، ووصفه تقرير في عام 2009، بأنه ملجأ للحيوانات البرية مثل الثعالب، والذئاب، والطيور، والثعابين. تضمنت مخابئ العظام في الأنفاق أجزاء من جمجمة بشرية يقدر عمرها في ذلك الوقت بحوالي 4000 عام. وذكر ستيوارت أنه لغاية عام 2019، لم يكن علماء الآثار قد درسوا نظام الأنفاق عن كثب.
وقال ستيوارت: "لقد تمكنا من تحديد تاريخ عظام الحيوانات والرواسب، ما يطلعنا على أن الناس بدأوا احتلال الكهف قبل 7000 عام وربما قبل 10000 عام".
وتوصّل مؤلفو الدراسة إلى أنه بالمقارنة مع المواقع الأخرى التي عاش فيها البشر ذات يوم، كانت كمية المواد الأثرية في أم جرسان "ضئيلة للغاية"، ما يشير إلى أن الناس كانوا يزورون الأنفاق كملاجئ مؤقتة عوض العيش فيها على نحو دائم.
المنحوتات الحيوانية
وفي نفق آخر بالقرب من أم جرسان، عثر الباحثون على 16 لوحة من الفن الصخري المنقوش. يبدو أن المنحوتات كانت عبارة عن مشاهد لرعي الحيونات.
وأظهرت منحوتات أخرى حيوانات ذات قرون مقوسة جدًا تشبه تلك الموجودة في الوعل. وتشير موضوعات المنحوتات وطلاء الورنيش الذي يغطيها، إلى أنها تعود إلى فترة إقليمية تُعرف باسم العصر النحاسي (حوالي 4500 إلى 3500 قبل الميلاد)، والتي سبقت ظهور العصر البرونزي.
وقال ستيوارت: "في المجمل، تعكس الاكتشافات الأثرية في الموقع، والمشاهد الطبيعية المحيطة به صورة عن أنه كان هناك استخدام متكرّر لأنبوب حمم أم جرسان على مدى آلاف السنين". وربما كان الموقع الممتد على طول طريق هجرة معروف لرعاة العصر البرونزي، بمثابة نقطة توقف، وملجأ.
وأضاف ستيوارت أن هذا الدليل غير المسبوق على الوجود البشري في أنابيب الحمم البركانية العربية القديمة يسلط الضوء على كيفية تكيف الناس مع العيش وسط الطبيعية القاحلة، كما أن إجراء المزيد من التحقيقات في أم جرسان وأنابيب الحمم البركانية الأخرى يَعِد بإضافة المزيد من التفاصيل.