إبراهيم عوض يكتب: مقاربة سياسية لعملية الإصلاح المالي والاقتصادي بمصر
هذا المقال بقلم إبراهيم عوض، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- المعترضون على اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي وعلى البرنامج المالي الذي التزمت الحكومة به ضماناً لتنفيذ الاتفاق، والمتحفظون عليهما، لا يجادل أحد من بينهم في أن حالة المالية العامة في مصر لا يمكن السكوت عليها وفي أنها من الأسباب الرئيسية لعرقلة أي جهود تبذل للتقدم على طريق التنمية. ألا تترك خدمة الدين العام، ونفقات دعم السلع الغذائية والطاقة، وأجور العاملين في الدولة، غير حوالي ربع الإنفاق العام لكي تضطلع الدولة بكافة وظائفها وضع شاذ لا يمكن قبوله لأنه يعرِّض الاقتصاد لانهيار لا فكاك منه والشعب لأخطار هائلة في مستقبله.
أهداف "الإصلاح" إذن لا خلاف عليها. إن كان الأمر يتعلق بالوصول إلى تخفيض نسبة الدين العام في الناتج المحلي الإجمالي، وكل من نسبة خدمة الدين العام والدعم وأجور العاملين في الدولة في الميزانية وفي الناتج المحلي الإجمالي فالاتفاق منعقد بين الجميع. الخلاف بين الحكومة وبرنامجها "للإصلاح"، من جانب، والمعترضين والمتحفظين، من جانب آخر، ينصب على طريقة الخروج من البئر المظلمة التي سقطت فيها المالية العامة المصرية منذ عقود في ظل دعة من الدولة وتقاعس عن رسم سبيل واقعي وبنّاء لوقف الانحدار في البئر ثم الخروج منها.
حجة رئيسية للمعترضين والمتحفظين تكمن في الاقتصاد السياسي للبرنامج المالي المتفق عليه. بالبرنامج اعتراف صريح بأن تكلفة "الإصلاح" يدفعها ذوو الدخول المنخفضة والمتوسطة. هذا واضح على جانبي النفقات والإيرادات العامة في برنامج الحكومة. على سبيل المثال المعدلات المرتفعة لتخفيض الدعم ذات وقع ثقيل على أصحاب الدخول المنخفضة والمتوسطة لأن ما سينفقونه بديلا عن الدعم يمثل نسبة كبيرة من إنفاقهم، على خلاف الحال فيما يتعلق بذوي الدخول المرتفعة حتى وإن سلمنا جدلاً بأن هؤلاء يستفيدون بالدعم كأرقام مطلقة بأكثر مما يستفيد منه أصحاب الدخول المنخفضة والمتوسطة. مثال على جانب الإيرادات هو أنه بعد تراجعها مرةً بعد أخرى عن فرض ضرائب مباشرة على أصحاب المستويات العليا من الدخل، سواء بإلغاء هذه الضرائب أو بتجميدها أو بتخفيض أسعارها، اعترفت الدولة ضمنياً بعجزها عن التعامل معهم، ولجأت إلى فرض ضريبة غير مباشرة هي ضريبة القيمة المضافة على كافة المستهلكين. تُقدّم هذه الضريبة على أنها عادلة فمن يستهلك أكثر، وهم أصحاب المستويات العليا من الدخل، يسددون للدولة حصيلة أكبر من تلك التي يدفعها قليلو الاستهلاك من أصحاب الدخل المنخفض والمتوسط. مرة أخرى، المسألة في النسبة التي تمثلها ضريبة القيمة المضافة على مختلف السلع والخدمات إلى مجمل إنفاق كل أسرة معيشية، وهي نسبة مرتفعة تهدد مستويات معيشة أصحاب الدخل المنخفض والمتوسط، على عكس الحال فيما يتعلق بمرتفعي مستويات الدخل. الحديث عن أن برنامج "الإصلاح" لن يمس "محدودي الدخل" والفقراء هو لغو لا ضرورة له ومضيعة لوقت من يتفوهون به لأنه لا ينطلي على أحد. أما برامج التضامن الاجتماعي للتصدي للفقر فهي مشكورة ولكنها تقتصر على التخفيف من آثار بعض أعراضه لدى عدد محدود من مدقعي الفقر ولكنها عاجزة عن تخفيض نسبة الفقراء في مجموع السكان، ناهيك عن التصدي لأسباب "إنتاج" الفقر نفسه.
ليس فيما ورد أعلاه عن آثار تخفيض الدعم وما سبقه عن أنه لا بدّ من تخفيض نسبة هذا الدعم في الميزانية وفي الناتج المحلي الإجمالي تناقض بالضرورة. المسألة تتعلق بطريقة تخفيض هذا الدعم وإيقاعها، من جانب، وبالسبيل إلى رفع حصيلة الإيرادات العامة، من جانب آخر. بعبارة أخرى، المسألة تكمن في السياسة المتبعة وهو ما ينطبق أيضا على أجور العاملين بالدولة وعلى خدمة الدين العام.
هل يمكن حقا رسم سياسة وتنفيذ برنامج ينخفض بنسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 10 في المائة في خلال ثلاث سنوات وذلك بتخفيض عنيف في الإنفاق على الدعم والأجور وبرفع مستوى الإيرادات عن طريق زيادة حصيلة الضرائب غير المباشرة، وتخصيص هذه المؤسسات أو تلك، والإتجار في الأراضي التي تملكها الدولة نيابة عن الشعب مع ما لهذه الإجراءات مجتمعة من آثار توزيعية وتضخمية وتشويهية لبنية الاستثمار والاقتصاد؟ هل هذه أهداف مطلوبة اقتصاديا واجتماعيا والدولة لا تحصل من الصندوق للمساعدة على تحقيقها إلا على قرض على ثلاث سنوات يبلغ 12 مليار دولار تمثل 3,6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، اي بقدار 1,2 في المائة سنوياُ، مشروطا بنجاحها في تعبئة ستة مليارات أخرى من مصادر مختلفة؟ التساؤل يثور: لماذا لا نتفاوض على فترة أطول لتنفيذ برنامج "الإصلاح"، ولتكن ما بين ست وعشر سنواتُ، تمكِّن من الحدّ من العنف في التخفيض النسبي للإنفاق ولزيادة الإيرادات، وطالما نقترض، فلماذا لا يرتفع مقدار القرض ارتفاعا ملموسا ليذهب مقدار الارتفاع إلى تنفيذ برنامج للإنعاش الاقتصادي؟ لاحظ أن برنامج "الإصلاح" في اليونان المنكوبة يمتد لثماني سنوات. حالة المالية العامة في مصر فريدة في نوعها في العالم أجمع وهي تستحق تماما برنامج اصلاح ممتد. برنامج الإنعاش الاقتصادي من شأنه زيادة حجم الناتج المحلي الإجمالي وبالتالي عدم الاعتماد في تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي على مجرد تخفيض الإنفاق أو زيادة الإيرادات بالطرق المذكورة أعلاه. المقدار الإضافي للقرض ينبغي أن يذهب إلى تشغيل المصانع المتوقفة عن العمل ورفع كفاءتها، وإلى رفع إنتاجية الزراعة عن طريق مدّ شبكة الصرف المغطّى للأراضي الزراعية بين إجراءات أخرى، وإلى الإصلاح الشامل للسياسة التعليمية، وإلى رسم وتنفيذ سياسة للتشغيل على كل من جانبي العرض من قوة العمل والطلب عليها والربط بين هذه السياسة والطلب الداخلي والخارجي على السلع والخدمات. بدون الشق الاقتصادي، والمتمثل في جهود ملموسة للتنمية، فإن البرنامج قصير الأجل يصبح مجرد عنف من جانب الدولة. المواطنون يمنحون الدولة حق ممارسة العنف تجاههم، وهو ما يجعله عنفا مشروعاً، ولكن لهذه المشروعية شروطها، وهم يستطيعون التعبير عن سحبهم لهذه المشروعية من الدولة، بشكل جزئي أو كامل، فماذا هي فاعلة عندئذ؟
قبل التفاوض مع صندوق النقد الدولي كان الأمر يحتاج إلى مؤتمر اقتصادي حقيقي يجمع الحكومة، ودوائر الأعمال، والممثلين الفعليين للعاملين في الدولة ولعمال وموظفي القطاع الخاص، للتفاوض الداخلي بشأن الخروج من البئر المالية التي سقطنا فيها، وليس مؤتمراً للإعلان عن الاستثمارات والمشروعات كذلك الذي انعقد في مارس 2015. مثل هذا المؤتمر الاقتصادي الحقيقي ربما ينعقد على مدار أسابيع أو حتى شهور وهو لن يكون سهلاً خاصةٍ في بداياته لأنه في جوهره مؤتمر سياسي في بلد غير معتاد لا هو ولا الفاعلين فيه على السياسة. الفاعلون، في نهاية الأمر، يدافع كل عن مصالحه، وهو الشيء المشروع تماماً، ولكنهم عقلاء ومخلصون وسينتهون ولو بعد عناء إلى الاتفاق على برنامج متوسط الأجل عادل قدر الإمكان وواقعي، برنامج يلتزمون به ويحقق فعلا الإصلاح المالي والاقتصادي المنشود.
كل من الأفرقة المتفاوضة كان لا بدّ أن يحضِّر الأوراق التي تساند مواقفه، ولكن كان ينبغي أيضا قبل انعقاد المؤتمر السياسي للإصلاح الاقتصادي إعداد الدراسات عن مختلف موضوعات الإصلاح وآثاره. على سبيل المثال، ما هو عدد العاملين المطلوبين في الجهاز الإداري للدولة لكي تضطلع بوظائفها تجاه المواطنين بكفاءة، بدلا من الكلام المرسل عن تضخم هذا الجهاز بالملايين؟ ما هي معدلات نمو الكتلة النقدية والتضخم المقبولة اقتصادياً واجتماعياً؟ ما هي أسعار الضرائب المباشرة وغير المباشرة وما هي معدّلات نمو الإنفاق العام وبنيته التي تحقق النمو الاقتصادي وتكفل عدالة توزيع تكاليفه وثماره؟
هل فات أوان مثل هذا المؤتمر تماماً؟ مازال المجال متاحاً لعقده وصندوق النقد الدولي لا يستطيع أن يرفض إعادة النظر في الاتفاق المبرم مع مصر إذا تقدمت الحكومة إليه ببرنامج مقبول ومتفق عليه من قبل كافة أطراف النشاط الاقتصادي.
هذه مقاربة سياسية لعملية الإصلاح المالي والاقتصادي، وهي مقاربة لا غنى عنها لكي تنجح العملية. هذه مقاربة تتزود بقوة من يشتركون فيها ويصلون للاتفاق طواعية وإن بعد خلافات وعناء، وهي على عكس إدارة الاقتصاد والبلاد بالتعليمات الفوقية والأوامر، وهي الوسائل التي تفتقر بطبيعتها الى الخيال وتستخدم القوة سبيلاً وإن افتقرت هي إلى القوة على خلاف ما يظنه مصدرو التعليمات والأوامر.
السياسة ليست حلاً، ولكنها منهج يتبع للتصدي لمشكلاتنا العديدة، بما فيها المالية والاقتصادية منها.
- مصر
- رأي
- الاقتصاد المصري
- البنك المركزي المصري
- الحكومة المصرية
- اقتصاد وأعمال
- صندوق النقد الدولي
- استثمار وتمويل