رأي.. طارق عثمان يكتب لـCNN: الملكية المصرية وناصر والعالم العربي.. مقومات مشروع جمال عبدالناصر (7)

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
من الشمال إلى اليمين، شكري القوتلي، جمال عبد الناصر والأمير سيف الإسلام البدر
Credit: Keystone/Hulton Archive/Getty Images

في الذكرى السبعين لسقوط الملكية المصرية وبداية المشروع الناصري، الكاتب والمعلق السياسي طارق عثمان يكتب سلسلة جديدة لـCNN بالعربية عن تأثيرهما على العالم العربي. والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.

لحظة جمال عبدالناصر التاريخية كانت من النجاح الكبير بعد حرب السويس في 1956 إلى الضربة المهولة في 1967. في تلك المرحلة كان جمال عبدالناصر القوة السياسية الأولى - وبفارق كبير بينه وبين من بعده - في كل ساحات السياسة في العالم العربي.

قوة جمال عبدالناصر كانت من نوع لم يعرفه العالم العربي من قبل أو من بعد في كل تاريخه الحديث. حجم المشاعر الجارفة التي خرجت إلى سطح السياسة العربية بعد النجاح في السويس وبعد تراجع الاستعمار الغربي أعطى عبدالناصر دعمًا شعبيًا مهولًا في كل الجزيرة العربية تقريبًا والشام الواسع بما فيه العراق وشمال إفريقيا ووادي النيل بما في ذلك السودان. دعم الناس كان بلا حدود، وكانت أهم مرتكزات ذلك الدعم ثقة جموع واسعة جدًا، خاصة من الطبقات الوسطى وما أقل منها في المجتمعات العربية، بالرجل. الثقة هنا كانت في شخصه، وليس في المؤسسات التي كان يعمل من خلالها.

قوة الرجل في تلك الفترة كانت أيضًا في نظر حركات تحرر مختلفة، في العالم العربي وأيضًا في إفريقيا وآسيا إليه، كصاحب تجربة ناجحة جدًا في تحدي القوة الاستعمارية الأعلى شأنًا لقرون (بريطانيا) والنجاح ليس فقط في مواجهتها بشكل شديد الجرأة، ولكن أيضًا في هزيمتها سياسيًا (في السويس). تلك الحركات التحررية لم تعط عبدالناصر مجرد كلمات من عواصم بعيدة، ولكن الأهم جاء أغلبها إليه في القاهرة، وبعض من جاءوا بدوا وكأنهم مريدون يريدون القبول من السيد الكبير. وقد كان ممن جاءوا أشخاص دخلوا وقتها الوجدان الإنساني في الجنوب (وفي بعض دول الشمال، في أوروبا) كأساطير، ومن هؤلاء مثلًا تشي چيفارا ونكروما وغيرهما.

جزء من القوة كان أيضًا في وراثة العصر الذهبي لمصر الحديثة - لحظة القمة التي تحدثنا عنها في المقال الرابع من هذه السلسة. عبدالناصر أنهى الملكية المصرية وذهب نظامه إلى تصوير عصرها على أنه كان قائمًا على فساد وضعف وأحيانا خيانة. وقد كان في ذلك الكثير من عدم الفهم وسوء التقدير، إذا لم يكن من التجني. لكن بالرغم من ذلك السرد، فإن النظام الجمهوري الذي أسسه عبدالناصر في مصر استغل، أحيانًا بذكاء، العديد من مقومات القوة التي بُنيت وترسخت في العهد الملكي، وقد كان أهمها النظم والهياكل الإدارية التي لم تتغير (على عكس ما فعلت ثورات عملاقة مثل الفرنسية أو البلشفية من تغيرات تامة في نظم وهياكل الإدارة في بلدانها).

النظام الجمهوري أيضًا استغل (بدون أن يدري) الجمال الذي كان في مصر وقتها، في القاهرة والاسكندرية وبعض المراكز المهمة في دلتا النيل والصعيد، وتلك كلها من صنع الملكية المصرية ومن نتائج التَفتُح الاجتماعي والليبرالية السياسية التي قامت عليها تلك الملكية (خاصة منذ عهد إسماعيل باشا). استغلال الجمال كان بمعنى أن مصر الستينات استمرت جميلة وجاذبة وبراقة أمام زائريها حتى بعد بداية ضياع مقومات ذلك الجمال. وذلك طبيعي، فإن ما بُني على مدى أكثر من قرن ونصف (حكم أسرة محمد علي) لا يضيع في سنوات قليلة.

النجاح الكبير في السويس وما نتج عنه من مشاعر جارفة أخرج من قمقم التاريخ قوة جذب بين مصر وسوريا، والبلدان على مر عصور مختلفة نقطتا المركز في دول حكمت وتحكمت في كل الشرق الأوسط، من الأمويين إلى الأيوبيين إلى المماليك إلى المشروع الإمبراطوري لإبراهيم باشا (موضوع المقال الثاني في هذه السلسلة). لكن قوة الجذب تلك تمثلت هذه اللحظة في طلب سوري للوحدة بدا قابلًا لأي شيء وكل شيء من أجل الانضمام تحت راية عبد الناصر.

وحدة مصر وسوريا كانت وقتها حدثًا عملاقًا في ما يحمله من احتمالات. تلك كانت الوحدة الأولى منذ مشروع إبراهيم باشا بين دولتين في المنطقة تقفان بوضوح ضد المصالح الغربية. كما أن الوحدة كانت لا شك نابعة من شرعية رغبة شعبية ليس هناك جدال في صدقها كما لا يمكن التقليل من حجمها. بالإضافة إلى ذلك تلك الوحدة جاءت كنتيجة مباشرة للنجاح الكبير في السويس الذي مَثَل (كما تحدثنا في المقال السابق في هذه السلسلة) تحديًا مباشرًا للاستعمار وللوجود الغربي، وبداية مشروع قام على تصوره لفكرة القومية العربية. وكان معنى ذلك أن الوحدة بين مصر وسوريا بداية لما يُمكن أن يكون أكبر.

كل ذلك أثار اهتمام الدولتين العظمتين وقتها - الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي - وإذا كانت الولايات المتحدة قد رأت احتمال خطر في ذلك الذي كان ممكنًا أن يكون أكبر، فإن الاتحاد السوفيتي رأى فرصة. ولذلك فإن الإتحاد السوفيتي اقترب، ليس فقط بالكلام، ولكن أيضًا بفرص تمويل وتسليح.

هناك اختلاف في التصورات (حتى بعد فتح الأرشيفات) في تقييم الاتحاد السوفيتي لعبدالناصر. والغالب أن التقييم اختلف باختلاف الجهات داخل الاتحاد السوفيتي، كما اختلف باختلاف الأوقات. لكن المؤكد أن نهايات الخمسينات وبدايات الستينات شهدت تقديرًا من أهم دوائر الحكم في الاتحاد السوفيتي أن جمال عبدالناصر هو القوة الأهم في كل العالم العربي، وأنه يحظى بالدعم الأكبر والذي لا يُقارن بين كل من يدعون زعامات في تلك المنطقة من العالم، وأن مشروعه المنادي بضرب مكامن المصالح الغربية في العالم العربي يحمل مقومات شراكة مع الاتحاد السوفيتي. كما أنه من المؤكد أن ذلك التقدير استمر (على الأقل في الكرملين، مركز الحكم السوفيتي ومن قبله ومن بعده الروسي) حتى بعد أن وجّه نظام عبدالناصر ضربات عنيفة للقوى السياسية الاشتراكية في مصر (وتلك طبيعيًا الحليف الطبيعي للسوڤيات)، وذلك يوضح قدر التقييم الإيجابي السوفيتي لعبدالناصر واحتماليات مشروعه.

دعم الاتحاد السوفيتي أعطى عبدالناصر وسائل قوة لم تكن متاحة له من قبل - وأهمها وزن في حسابات القوة العظمى الأخرى: الولايات المتحدة الأمريكية - كما أعطاه وأعطى مصر (خاصة عملها الدبلوماسي) تواجدًا كبيرًا ومؤثرًا في عدد من العواصم الأوروبية الشرقية التي كان لها وزن خاص أثناء الحرب الباردة (خاصة في الستينات). لكن الدعم الرئيسي من الاتحاد السوفيتي كان في إمكانات التنمية. ولعله من المهم التذكير أنه طيلة النصف الأول من ستينات القرن العشرين كانت هناك تقديرات مختلفة من عدد من أهم مراكز البحوث والدراسات - خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية - ترى عدة نقاط شديدة الإيجابية في تجربة التنمية (سواء الزراعية أو الصناعية أو في التكنولوجيا المتقدمة) في الاتحاد السوفيتي. وقد كان أن بعض تلك العلوم والخبرات وجد طريقه إلى عقول وأيادٍ مصرية كانت وقتها تعمل في مشاريع تنموية شديدة الطموح، كان أهمها السد العالي.

كل تلك المقومات أعطت جمال عبد الناصر مضخات قوة مهولة. وللإنصاف، فإن كل تلك المقومات قامت حوله نتيجة للبدايات في مشروعه، وقد كانت تلك البدايات من صنعه هو.

الذي حدث أن حجم قوة عبدالناصر - وهي كما تحدثنا في البداية، كانت واقفة على دعم شعبي غير مسبوق في كل التاريخ المصري والعربي الحديث - أخذت الرجل إلى مصاف الزعماء التاريخيين، وهؤلاء قليلون للغاية في كل التاريخ العربي، قديمه وحديثه. لكن هذا الحجم من القوة، وهذا القدر من الدعم الشعبي يفرضان سؤالًا رئيسيًا، وهو ماذا فعل جمال عبدالناصر بهما؟ وهذا موضوع المقال القادم في هذه السلسلة.