تقرير ضمن نشرة الشرق الأوسط البريدية من CNN. للاشتراك في النشرة (اضغط هنا)
عندما عاد أعضاء الفريق القانوني الذي يمثل جنوب إفريقيا في قضيتها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية إلى بلادهم هذا الأسبوع، استقبلهم حشد من الناس في مطار جوهانسبرغ، وهم يلوحون بأعلام جنوب إفريقيا والفلسطينيين.
وأعرب الكثيرون عن فخرهم الجماعي بالطريقة التي تم بها عرض القضية. وأشاد أحد النشطاء الذين كانوا في استقبال المحامين بـ“الشجاعة التي كانت لديهم لإحالة إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية عندما لم يكن لدى أي شخص آخر هذه الشجاعة”.
وفي قضية عُرضت على المحكمة في لاهاي في ديسمبر/كانون الأول، زعم الفريق أن إسرائيل انتهكت التزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948 في حربها مع حماس في غزة - وهي التهمة التي نفتها إسرائيل بشدة.
تم الترحيب بفريق المحامين متعدد الأعراق كأبطال في السعي لتحقيق العدالة، وهو يرمز إلى روح "أمة قوس قزح" في جنوب إفريقيا التي تحتفي بتنوعها، وقد سمح للبلاد باستعراض عضلاتها الدبلوماسية باعتبارها حكمًا أخلاقيًا في قضايا عالمية، بعد ثلاثة عقود من الزمن على التمييز العنصري.
وكتبت نسرين مالك، صحفية وكاتبة سودانية، في صحيفة الغارديان: "إن أهمية حقيقة أن الدولة التي ترفع القضية هي جنوب إفريقيا - رمز ويلات الاستعمار والاستيطان والفصل العنصري - لا يمكن أن تغيب عن ذهن أحد.. إنها ترمز إلى الظلم العنصري الهائل، الذي لا يمكن تجاهله باعتباره تاريخًا قديمًا".
ونظرت إسرائيل إلى الرمزية العنصرية بشكل مختلف تماما، حيث اتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو جنوب إفريقيا بـ”النفاق” الذي “يصل إلى عنان السماء”. وقال في خطاب متلفز إن حماس ارتكبت “أسوأ جريمة ضد الشعب اليهودي منذ المحرقة”، ولكن “الآن يأتي شخص للدفاع عنها باسم المحرقة”.
وشنت إسرائيل حربها ضد حماس بعد الهجوم الوحشي الذي شنته الجماعة على البلاد والذي أسفر عن مقتل ما يقرب من 1200 شخص واحتجاز 250 رهينة. وأدى الهجوم الإسرائيلي اللاحق على غزة حتى الآن إلى مقتل أكثر من 24 ألف شخص، وفقا لوزارة الصحة التي تديرها حماس هناك.
سلطت قضية "الإبادة الجماعية" التي رفعتها جنوب إفريقيا الضوء على خط صدع أعمق في الجغرافيا السياسية العالمية. وبعيدًا عن الدراما في قاعة المحكمة، يقول الخبراء إن الانقسامات حول الحرب في غزة ترمز إلى الفجوة الآخذة في الاتساع بين إسرائيل وحلفائها الغربيين التقليديين، ولا سيما الولايات المتحدة وأوروبا، ومجموعة من الدول المعروفة باسم الجنوب العالمي - وهي دول تقع في المقام الأول في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، والتي غالبا ما تتميز بانخفاض مستويات الدخل والاقتصادات النامية.
كانت ردود الفعل من الشمال العالمي تجاه قضية محكمة العدل الدولية متباينة. وفي حين حافظت بعض الدول على موقف دبلوماسي حذر، انتقدت دول أخرى، وخاصة أقوى حلفاء إسرائيل في الغرب، خطوة جنوب إفريقيا.
لقد وقفت الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل خلال الحرب من خلال الاستمرار في شحن الأسلحة إليها، ومعارضة وقف إطلاق النار، واستخدام حق النقض (الفيتو) ضد العديد من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تهدف إلى وقف القتال. وقد رفضت إدارة بايدن الادعاء بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ووصفته بأنه “لا أساس له من الصحة”، في حين رفضت المملكة المتحدة دعم جنوب إفريقيا.
وقال ريمي أديكويا، المحاضر السياسي في جامعة يورك في إنجلترا: "إن الحرب بين إسرائيل وغزة والأحداث اللاحقة لها مثل هذه القضية تسلط الضوء على الانقسامات المتزايدة بين الغرب الذي كان مهيمناً في السابق وحلفائه الرئيسيين مثل إسرائيل والقوى الناشئة المتجمعة حول دول بريكس مثل جنوب إفريقيا".
كان القرار الذي اتخذته جنوب إفريقيا برفع دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بمثابة خروج عن القنوات الدبلوماسية المعتادة المتبعة في مثل هذه النزاعات، مع تزايد الأصوات الغاضبة ضد الحملة الإسرائيلية في غزة.
باعتبارها دولة ترجع جذور تاريخها إلى التغلب على الفصل العنصري، تحمل خطوة جنوب إفريقيا ثقلًا رمزيًا لاقى صدى لدى دول أخرى في العالم النامي، والتي واجه الكثير منها عبء القمع والاستعمار من القوى الغربية.
وكان نيلسون مانديلا، وجه الحركة المناهضة للفصل العنصري، من أشد المؤيدين لمنظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات، حيث قال في عام 1990: "إننا ننحاز إلى منظمة التحرير الفلسطينية لأنها، مثلما هو الحال مع نضالنا، تدافع عن الحق في تقرير المصير."
وقال هيو لوفات، باحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إنه في حين أن قضية جنوب إفريقيا هي استمرار لتعاطفها طويل الأمد الداعم للفلسطينيين، فإن الدول التي احتشدت خلفها تظهر إحباطات أعمق من قبل الجنوب العالمي.
وقال لوفات لـCNN: هناك "سياق جيوسياسي واضح تنتقد فيه العديد من دول الجنوب العالمي بشكل متزايد ما يعتبرونه غياب الضغط الغربي على إسرائيل لمنع مثل هذه الخسائر الكبيرة في الأرواح في غزة ومعاييرها المزدوجة عندما يتعلق الأمر بالقانون الدولي."
إن قسماً كبيراً من العالم غير الغربي يعارض الحرب في غزة؛ وانضمت الصين إلى جامعة الدول العربية المكونة من 22 عضوا في الدعوة إلى وقف إطلاق النار، في حين طردت عدة دول في أمريكا اللاتينية دبلوماسيين إسرائيليين احتجاجا، كما قامت عدة دول آسيوية وإفريقية بطرد دبلوماسيين إسرائيليين احتجاجا على ذلك.
انضمت الدول العربية والإسلامية إلى دعم قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية.
بالنسبة للكثيرين في العالم النامي، أصبحت قضية محكمة العدل الدولية نقطة محورية للتشكيك في السلطة الأخلاقية للغرب وما يُنظر إليه على أنه نفاق أقوى دول العالم وعدم رغبتها في محاسبة إسرائيل.
وقال لوفات إن أحد أسباب ذلك هو أن إسرائيل كانت منذ فترة طويلة “دولة ذات توجه غربي بحكم تاريخها وتراثها السائد”.
وأضاف أن إسرائيل وقفت إلى جانب الغرب ضد الأنظمة العربية المدعومة من السوفييت خلال الحرب الباردة، والدول الغربية تنظر إليها إلى حد كبير “كعضو زميل في النادي الديمقراطي الليبرالي”. وتابع: "بعض هذا يفسر استمرار الدعم الغربي القوي لإسرائيل - والذي أصبح الآن انعكاسيًا إلى حد كبير".
وقال لوفات: “لكن الدعم القوي من الحكومات الغربية يتعارض بشكل متزايد مع مواقف الجماهير الغربية التي تستمر في الابتعاد عن إسرائيل”.
صراع الحضارات؟
وصورت إسرائيل الحرب في غزة على أنها صراع حضارات حيث تعمل كحارس للقيم الغربية التي تقول إنها تواجه تهديدا وجوديا.
وقال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لـ MSNBCفي ديسمبر/كانون الأول: "هذه الحرب ليست حرباً بين إسرائيل وحماس فقط.. إنها حرب تهدف - حقًا، إلى إنقاذ الحضارة الغربية، وإنقاذ قيم الحضارة الغربية".
وحتى الآن، لم تدعم أي دولة غربية قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل.
ومن بين الدول الغربية، كانت ألمانيا واحدة من أعلى المؤيدين للحملة الإسرائيلية في غزة. وقالت الحكومة الألمانية إنها "ترفض صراحة" المزاعم القائلة بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، وإنها تخطط للتدخل كطرف ثالث نيابة عنها في محكمة العدل الدولية.
لكن استطلاعا للرأي أجرته هيئة الإذاعة الألمانية ZDF هذا الأسبوع أظهر أن 61% من الألمان لا يعتبرون العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة مبررة في ضوء الخسائر في صفوف المدنيين. وأعرب 25% فقط عن تأييدهم للهجوم الإسرائيلي.
ولكن في الأراضي الاستعمارية الألمانية السابقة، ناميبيا، تعرض الهجوم الإسرائيلي لأشد الانتقادات.
وانتقد الرئيس الناميبي هيج جينجوب في بيان، السبت، قرار برلين رفض قضية محكمة العدل الدولية، متهما إياها بارتكاب "أول إبادة جماعية في القرن العشرين في 1904-1908، والتي قُتل فيها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء في أبشع الظروف اللاإنسانية والوحشية." وأضاف البيان أن الحكومة الألمانية لم تقدم تعويضا كاملا بعد عن عمليات القتل.
وقد خطت بنغلاديش، حيث قُتل ما يصل إلى ثلاثة ملايين شخص خلال حرب استقلال البلاد عن باكستان في السبعينيات، خطوة أخرى إلى الأمام لتقديم إعلان تدخل في قضية محكمة العدل الدولية لدعم مزاعم جنوب إفريقيا، وفقًا لصحيفة "دكا تريبيون."
ويسمح إعلان التدخل للدولة التي ليست طرفا في الإجراءات بتقديم ملاحظاتها إلى المحكمة.
وقال لوفات: “مع انحياز ألمانيا إلى إسرائيل، ودعم بنغلادش وناميبيا لجنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، يبدو أن الانقسام الجيوسياسي بين الجنوب العالمي والغرب يتعمق”.
تقليديا، كان للغرب تأثير كبير في الشؤون الدولية، لكن تحرك جنوب إفريقيا يشير إلى تزايد الحزم بين دول الجنوب العالمي مما يهدد الوضع الراهن، كما يقول أديكويا.
وأضاف أديكويا: "أحد الأنماط الواضحة الناشئة هو أن النظام القديم الذي يهيمن عليه الغرب يتعرض لتحديات متزايدة، وهو وضع من المرجح أن يزداد حدة مع فقدان الغرب لموقعه الاقتصادي المهيمن الذي لا يمكن تعويضه".