عمرو حمزاوي يكتب.. "عن أزمة الطبقة الوسطى"

اقتصاد
نشر
10 دقائق قراءة
تقرير عمرو حمزاوي

هذا المقال كتبه عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

ما الذي يجمع بين استمرار انجذاب قطاع واسع من الأمريكيين لرجل الأعمال دونالد ترامب على الرغم من عنصريته الكريهة، وبين صعود أحزاب وحركات اليمين المتطرف في عديد المجتمعات الأوروبية، وبين التأييد الشعبي للسلطوية في مصر؟ الإجابة هي مخاوف الطبقات الوسطى التي تدفعها في البلدان الديمقراطية بعيدا عن الالتزام بقيم العقل والعدل والحق والمساواة وتلقي بها في أحضان متطرفين بضاعتهم الوحيدة هي التحريض، بينما تزين لها في البلدان غير الديمقراطية استبدال مبادئ سيادة القانون وتداول السلطة بأوهام الديكتاتور العادل وحكم الأبطال المنقذين وتقنعها بقبول مقايضة فاسدة هي الخبز والأمن نظير الحرية.

بالفيديو: "الحب الممنوع".. القصة الكاملة لعلاقة دونالد ترامب بالمسلمين في 6 أجزاء 

في الولايات المتحدة الأمريكية، طغت العنصرية على الخطاب السياسي والإعلامي لترامب منذ أعلن ترشحه للحصول على البطاقة الرئاسية للحزب الجمهوري. مثل المهاجرون غير الشرعيين "ضحايا البداية" لعنصرية ترامب الذي طالب بطردهم جميعا وإعادتهم وأسرهم إلى البلاد "التي قدموا منها"، بل ورفض استثناء المجنسين من أبناء المهاجرين غير الشرعيين من حملته المزمعة للطرد الجماعي. ثم وجه رجل الأعمال عنصريته التحريضية إلى المواطنين الأمريكيين ذوي الأصول العربية والمسلمة، وإلى المقيمين العرب والمسلمين في أعقاب تفجيرات باريس الإرهابية (نوفمبر 2015). خرج ترامب على الرأي العام مقترحا قيام السلطات الفيدرالية بتسجيل جميع العرب والمسلمين في قوائم خاصة ووضعهم تحت رقابة أمنية دائمة، ومناديا أيضا برفض قدوم العدد المحدود من اللاجئين السوريين (بين 8 و9 آلاف لاجئ) الذي كانت إدارة أوباما قد التزمت باستقباله في 2016. وفي أعقاب الحادث الإرهابي الذي شهده جنوب ولاية كاليفورنيا (مدينة سان برناردينو)، تحول الأمر إلى مطالبة علنية بمنع دخول المسلمين بمن فيهم المواطنين الأمريكيين إلى الأراضي الأمريكية وإبعادهم عنها لدواعي الحرب على الإرهاب. وبذلك استبدلت عنصرية ترامب ضحايا البداية، المهاجرين غير الشرعيين، بالعرب والمسلمين وطالبي اللجوء السوريين وزج بالجميع إلى خانة واحدة، خانة المسلم الإرهابي.

غير أن عنصرية ترامب الكريهة والتحريضية ليست نتاج تكوينه الشخصي وحسب. كما أن من غير الموضوعي اختزالها في رغبة مرشح يفتقد إلى خبرة سياسية حقيقية ولا يمتلك شخصية كاريزمية في الحصول على اهتمام إعلامي. نعم، يشير الكثير من الصحفيين الأمريكيين الذين يعرفون ترامب ويتابعون حملته الانتخابية إلى عنفه اللفظي وغطرسته البالغة في التعامل مع الآخر، إن امرأة أو مهاجر غير شرعي أو مسلم أو فقير. لا يجانب الصواب هؤلاء الصحفيين حين يربطون بين هذه الحقيقة وبين عنصرية الخطاب السياسي والإعلامي لترامب. كذلك، جلبت المطالبة بطرد المهاجرين غير الشرعيين الكثير من الاهتمام الإعلامي لترامب في الأسابيع الأولى لحملته الانتخابية، تماما كما تحاصره الصحف والمحطات التليفزيونية اليوم بعد تصريحات إبعاد المسلمين الأخيرة. لا أنكر هذا أو ذاك. إلا أن العنصرية التي لا يجد ترامب أدنى غضاضة في التعبير العلني عنها وهو ينافس على البطاقة الرئاسية للحزب الجمهوري تظل عصية على الفهم ما لم ينظر إليها كنوع من أنواع الاستجابة المباشرة لمخاوف الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة.

منذ سنوات، واستطلاعات الرأي العام تظهر تململ الطبقة الوسطى - خاصة في شرائحها الدنيا - من تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية. منذ سنوات، ونقاشات السياسة في العاصمة واشنطن ترفض التناول الموضوعي لأسباب تململ الطبقة الوسطى خشية التورط في ترديد مقولات عنصرية عن الأمريكيين اللاتينيين، وعن قوة العمل الرخيصة التي أصبحوا يمثلونها في الاقتصاد الأمريكي، وعن منافستهم الشرسة للمواطنين الأمريكيين وللمقيمين الشرعيين على أماكن العمل في بعض قطاعات الخدمات. منذ سنوات، وتململ الطبقة الوسطى يترك لوسائل الإعلام اليمينية ولبعض المنظمات الدينية والحركات الاجتماعية ذات التوجه المحافظ ليس بهدف ترشيده الاشتباك الإيجابي مع مجتمع المهاجرين غير الشرعيين، بل لبلورته كقوة ضغط لإبعادهم ومنع وصول المزيد منهم إلى الأراضي الأمريكية. ثم رتبت بعض القرارات التنفيذية (الرئاسية) التي أصدرتها إدارة أوباما، خاصة القرار المتعلق بفتح باب التجنس أمام المهاجرين غير الشرعيين، انقلاب التململ إلى خوف صريح.

أما المواطنون والمقيمون من أصحاب الأصول العربية والمسلمة، علما بأن الكثير منهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فمازال ينظر إليهم كفئة أو طائفة غريبة عن النسيج المجتمعي الأمريكي. والبعض، خاصة في أوساط الأغلبية ذات الأصول الأوروبية، يرى فيهم بتنميط عنصري صريح مصدرا محتملا لامتداد خطر الإرهاب إلى الولايات المتحدة. ومع دموية ووحشية داعش، وتفجيرات باريس، وإرهاب سان برناردينو؛ انفجر بركان الغضب والخوف باتجاههم تماما كما حدث في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية.

أيضاً: ضحكات أقل وغياب رموز موسيقية وفنية وشيكاغو بلا ناطحات سحاب: كيف ستبدو أمريكا لو حظرت دخول المسلمين؟

في السياقين، مخاوف الطبقة الوسطى من المهاجرين غير الشرعيين ومخاوفها من ذوي الأصول العربية والمسلمة، تأتي عنصرية ترامب كاستجابة مباشرة تتماهى مع الخوف طلبا لتأييد الخائفين، تتماهى مع الخوف أملا في أن يمكن مرشحها من الفوز بالبطاقة الرئاسية ثم يحمله إلى البيت الرئاسي. تصنع العنصرية من الخوف غولا، وتدعي أن السبيل الوحيد للسيطرة عليه هو ذبح قيم العقل والعدل والحق والمساواة، تارة بطرح جنون الطرد الجماعي وتارة أخرى استخفافا بالاضطهاد المرتبط بمنع مواطنين ومقيمين شرعيين من العودة إلى مكان معيشتهم بسبب الهوية الدينية. ولأن مخاوف الطبقة الوسطى حقيقية، وعنصرية ترامب تتماهى معها وتستغلها ضاربة عرض الحائط بكل القيم الأخلاقية والإنسانية؛ يتواصل انجذاب قطاع واسع من الأمريكيين له ولخطابه السياسي والإعلامي المتهافت.

وما يسجل في شأن الطبقة الوسطى الأمريكية يمكن أن يوظف لفهم انجراف الطبقات الوسطى لتأييد اليمين العنصري والمتطرف في مجتمعات شمال وغرب أوروبا التي استقرت بها الآليات الديمقراطية منذ عقود طويلة. الخوف من المهاجرين غير الشرعيين، الخوف من اللاجئين القادمين من بلاد الحروب والصراعات الأهلية وغيرهم ممن يبحثون عن فرص للعمل وتعرفهم الحكومات الأوروبية باستعلاء بالغ كلاجئي المنافع الاقتصادية، الخوف من العرب والمسلمين الذين يصنفهم البعض كحملة هوية دينية لا تتناسب مع أوروبا ويراهم البعض الآخر كمورد للإرهاب، الخوف على فرص العمل في أسواق تبحث دائما عن العمالة منخفضة الكلفة. هنا أيضا تمثل العنصرية استجابة تماهي مع مخاوف الطبقات الوسطى، وتطلق للتطرف العنان ليستبيح الكرامة الإنسانية للضعفاء ويروج لفعل الإقصاء والإبعاد والإخراج كالفعل الوحيد الممكن لمواجهة غول الخوف. ولتذهب مجددا قيم العقل والعدل والحق والمساواة إلى الجحيم.

المزيد: باحثون: المسلمون 21% من البشر وأصولهم المالية 1% فقط.. و"الأسهم الخاصة" طفرة جديدة بالاقتصاد الإسلامي

أما في مصر، فتتكرر مأساة مخاوف الطبقة الوسطى في فصول أخرى؛ خوف من تحول ديمقراطي يعطي للفقراء والمهمشين ومحدودي الدخل عبر ممثلين منتخبين الكلمة العليا في إدارة شؤون البلاد لأنهم أغلبية السكان، خوف من اليمين الديني الذي يعجز عن طمأنة العلمانيين والأقليات الدينية، خوف من الفوضى وانهيار الدولة والمجتمع، خوف من تراجع المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للطبقة الوسطى في لحظة تحول بها الكثير من التخبط. وحصاد الخوف هو انقلاب الطبقة الوسطى التي تصدرت الثورة الديمقراطية في 2011 على مبادئ سيادة القانون والتداول السلمي للسلطة في 2013، ثم ارتدادها إلى مواقع تأييد السلطوية والصمت على قمعها والتعلق مجددا بأوهام الديكتاتور العادل كحل وحيد لمواجهة الخوف.

هناك وهنا، لن تعود الطبقات الوسطى من انصرافها عن الديمقراطية ما لم تواجه السياسة مخاوفها بموضوعية وجدية. هناك لديهم هذه التي نسميها سياسة، أما هنا فغيابها مطلق واحتمالات إحيائها شبه معدومة.