هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
كلاهما. أسارع فأجيب، ولهذه الأسباب. أبدأ بالنتائج، متتبّعا أحدث تداعيات ما سميته في مقالة سابقة قبل خمس سنوات في هذا المنبر الكريم، التانغو القاتل بين إسرائيل وحزب الله.
ها هي بوادر رسم الحدود البرية بين الدولتين تحثّ الخطى بعد عام من نجاح الترسيم البحري بكل ما فيه من اقتسام لثروات الغاز والنفط البحري في شرق المتوسط. كسابقاتها، تنشط الدبلوماسية عبر وسطاء في مقدمتهم أمريكا وفرنسا وألمانيا، تنشط على وقع تصعيد خطابي تتخلله رشقات نارية ضمن قواعد اشتباك متفق عليها منذ حرب تموز 2006.
"وصلة" التانغو الراهنة، تعمّدت بنار حرب السابع من أكتوبر التي دخلت شهرها الرابع ضمن خط أمريكي أطلسي أحمر مغلّظ -لا يخفى فيه التوافق الروسي الصيني أيضا- بعدم السماح لأي طرف بتحويل المواجهة "الوجودية" إلى حرب إقليمية. وجودية بحسب إسرائيل منذ أطلقت الأوساط الإسرائيلية كافة -يمينا ويسارا- اسم "دواعش" حماس على مخططي ومنفذي عمليات الاقتحام والقتل والخطف- في إشارة إلى ما رصدته الصحافة الإسرائيلية، وتبنّته معظم السرديات السياسية والإعلامية الدولية من اقتراف حماس جرائم عنف وترويع خلال فيما صار يعرف في إسرائيل بـ"السبت الأسود".
كان لافتا بمجرد إعلان البيت الأبيض أنه ينظر في مدى علاقة أو علم طهران بما سمته حماس "طوفان الأقصى"، مسارعة نظام ملالي إيران بنفي قطعيّ ومتكرر للأمرين: لا علاقة، بمعنى لا دور في عمليات الاختراق لأكثر الحدود تحصينا في العالم -ربما أكثر حتى من المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين- ولا علم أيضا بنوايا يحيى السنوار قائد حماس "الداخل".
حتى "حركة" قائد حماس "الخارج" التلفزيونية عبر شاشة الجزيرة بـ"السجود شكرا لله" على تلك العملية، سرعان ما اقترن بنفي الحركة ضمنا ومن ثم تصريحا، بالعلم المسبق بالعملية أو تفاصيلها. انسحب ذلك على إسماعيل هنية -المقيم في الدوحة- وخالد مشعل سفير الحركة الجوال، سلف هنية في رئاسة المكتب السياسي. الوحيد الذي سرعان ما أطلق عليه لقب "مهندس طوفان الأقصى" صالح العاروري تم تصفيته في ضربة إسرائيلية لم تتبنها إسرائيل رسميا، في حضن حزب الله في قلب الضاحية الجنوبية "المربع الأمني" الحصين لقيادات الحزب وضيوفه وضيوف إيران من حماس والجهاد الإسلامي وأذرع إيرانية أخرى من ضمنها جماعة الحوثي اليمنية.
كانت الأسابيع القليلة الماضية، أشبه ما تكون تصفيات بالجملة لقياديي الحرس الثوري الإيراني وحماس وحزب الله وحركة النجباء العراقية في ضربات متلاحقة متسارعة اقترنت بما قيل إنه بدايات المرحلة الثالثة من حرب غزة التي أطلقت إسرائيل عليها اسم "عملية السيوف الحديدية".
تصدير الحوثي للتصدي لإسرائيل، كان بمثابة فتح جبهة جنوبية بعيدة جغرافيا، عوضا عن مخاطر تدحرج كرة النار من الجنوب اللبناني عبر الجليل الأعلى في إسرائيل.
كان المشهد أشبه بمن يدفع ملاكما إلى حلبة وقفازتيه مربوطتين بعقدة لا يحلها إلا راعي المباراة. لم تكن حربا بالنقاط كما قال حسن نصرالله أمين عام حزب الله في أول خطاب له بعد اندلاع الحرب، بل كانت حربا مفتوحة على خيار الضربة القاضية، تماما على غرار السيناريو الجاري بين إسرائيل وحماس.
بعد ضربة فجر الجمعة بتوقيت اليمن، الأولى لحلف "حارس الازدهار"، ذكّر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستين -من على سرير تعافيه في واشنطن إثر عملية سرطان بروستاتا- أن الضربة استهدفت البنية التحتية للحوثيين الخاصة "بالمسيّرات والصواريخ ومراكز التدريب". لعل أهمها الحديدة، الميناء الذي تراخت واشنطن والناتو عن سيطرة الحوثيين عليه مما مكّنهم من تهديد الملاحة الدولية جنوب البحر الأحمر في أشبه ما يكون بقرصنة المتطرفين الصوماليين.
هي ضربة أولية أرادتها واشنطن ولندن بدعم دول حليفة من بينها البحرين، كما قال بايدن، والتي كرر فيها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في ختام زيارته الشرق أوسطية الرابعة من حرب السابع من أكتوبر والخامسة لإسرائيل، تحذيرات أوستين بأن مواصلة الاعتداءات والتهديدات الحوثية "سيكون لها عواقب".
بين هذا التصريح وسحب البحرية الإيرانية سفينة تجسّس لها من منطقة مضيق هرمز باتجاه ميناء بندر عباس وتنفيذ التحالف وعيده للحوثي لم تكن أكثر من عشية وضحاها! لعل في ذلك إشارة على حرص الطرفين الأمريكي والإيراني على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة تفاديا لصدام يزيد من تعقيد تداعيات حرب لا يراد لها أن تصير إقليمية.
نصرالله حرص -قبل أقل من أسبوع- على نفي تهمة تبعيّة حزبه أو "محور المقاومة والممانعة" لطهران، لكن حقيقة ما يجري من استهداف ناري لوكلاء إيران على الساحات كافة، العراقية والسورية واللبنانية والفلسطينية (غزة والضفة)، يفيد بضرب أذرع إيران أو كفّ يدها. يتجلى ذلك بوضوح عبر تصفية القيادات العسكرية حتى الآن، وضرب خطوط تهريب المقاتلين والسلاح والعتاد والمخدرات -وتلك قضية قد نعود إليها في ضوء النجاحات التي تحققها القوات المسلحة الأردنية ضد عصابات سموم المخدرات "الفصائلية" المدعومة من إيران.
قمة العلا السعودية الأمريكية -إن جاز التعبير- بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كانت دالة ليس فقط فيما صدر عن بلينكن من تصريحات قوية في ختامها فيما يخص ما بعد حرب غزة، وإنما اللقاء الذي جمع ولي العهد جلوسا في خيمة بقادة لجنتي الاستخبارات في مجلسي الشيوخ والنواب من الحزبين الديمقراطي والجمهوري بمن فيهم الصقوريّ ليندسي غراهام الذي اتخذ مواقف عدائية بحق السعودية ومحمد بن سلمان على خلفية ما نشر من مزاعم حينها حول مقتل الصحفي جمال خاشقجي.
الأرجح، أن طهران رضوخا أو بالتفاوض، وافقت سرا على تغيير سلوكها "الخبيث" في الشرق الأوسط كما أجمعت الإدارات كافة، منذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما وليس فقط السابق -وربما المقبل- دونالد جيه ترامب. إن انتهت حرب القطاع ومداهمات الضفة بالقضاء على حماس عسكريا وتحويلها إلى فصيل في منظمة التحرير. وإن تراجع حزب الله إلى ما وراء الليطاني تنفيذا لقرار مجلس الأمن 1701 ، فإن الحوثي سيكون على طريق حماس أو حزب الله، انكفاء إلى الداخل ضمن تسويات سياسية لا تفسد للتجارة الدولية والتنمية الإقليمية ودّا. هو البازار الإيراني لم يتغير في أوكازيون التجارة والإمارة! فهل تبقى أذرع طهران السورية والعراقية العقدة الأخيرة في "مسبحة" الملالي أم تعاد الكرّة؟!