هذا المقال بقلم فريد زكريا، الكاتب السياسي ومقدم برنامج Fareed Zakaria GPS على قناة CNN، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
من الصعب فهم الاضطرابات التي تحدث في حرم الجامعات الأمريكية هذه الأيام، الاحتجاجات والاستقطاب والترهيب والمرارة العامة.
في مقال كاشف بصحيفة "وول ستريت جورنال"، يربط مراسل التعليم العالي دوغلاس بلكين هذه الأحداث بخلفية أوسع: اختفاء الشعور بالانتماء للمجتمع. ويشير إلى بحث يظهر أن " طلاب الجامعات اليوم أصبحوا أكثر وحدة وأقل مرونة وأكثر انفصالًا من أسلافهم، كذلك المجتمعات الجامعية التي يعيشون فيها مجزأة اجتماعيًا ومتقلصة وأقل حيوية".
يتساءل المرء عما إذا كانت خسارة المجتمع هذه قد أدت إلى المزيد من عدم الثقة، والخلافات الحادة، والمزيد من الغضب. يلتقي الناس ببعضهم البعض في هذه الاحتجاجات غالبًا للمرة الأولى، وغالبًا ما يكونون غرباء.
كان الحرم الجامعي الذي ذهبت إليه منذ عقود مليئاً بالخلافات السياسية، لقد كان ذلك في زمن رونالد ريغان، والحرب الباردة، وحركة "التجميد النووي"، وسحب الاستثمارات من جنوب إفريقيا. تم بناء الخيام ومدينة الصفيح في الساحة خارج مكتب الرئيس، ولكن أجرينا أيضًا مناقشات طويلة وبحثية حول هذه القضايا.
في كل مجموعة كنت فيها، سواء في الصف أو الأنشطة خارج نطاق المناهج الدراسية، كان الناس يختلفون حول القضايا، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك بجدية ويستمعون إلى الآخرين وينخرطون فيما كان في الغالب خطابًا متحضرًا، (رغم أنه من السهل إضفاء طابع رومانسي على الماضي، فعندما جاء وزير دفاع ريغان، كاسبار واينبرغر، للتحدث، حاول الطلاب المتظاهرون مرارًا وتكرارًا تعطيل خطابه، لكن الغالبية العظمى من الحاضرين في الغرفة الذين اختلف معظمهم بشكل شبه مؤكد مع واينبرغر، أطلقوا صيحات الاستهجان ضد المتظاهرين).
عندما ذهبت إلى جامعة ييل، كانت مكانًا مليئًا بالفصول الدراسية وقاعات الاجتماعات المكتظة والحفلات والمناظرات والمسرحيات والأحداث الرياضية التي تحظى دائمًا بحضور جيد، مما أحدث مجتمعًا ثريًا. إن العديد من أصدقائي المقربين اليوم هم أشخاص التقيت بهم في تلك الغرف المزدحمة منذ 4 عقود.
لقد عدت إلى حرم جامعتي عدة مرات منذ ذلك الحين، ولسنوات عديدة شعرت أنه المكان نفسه الذي كنت فيه منذ عقود. لكن على مدى العقد الماضي، بدت الحياة في الحرم الجامعي أقل كثافة، ثم جاء فيروس كورونا (كوفيد-19)، الذي قضى مثل قنبلة نيوترونية على الحياة المجتمعية في الحرم الجامعي بينما ترك جميع المباني الجميلة كما هي.
في مقالته، ينقل بلكين عن مساعد سكن جامعي سابق في كلية أخرى كانت وظيفته المساعدة في التواصل الاجتماعي للطلاب الجدد، قوله: "لا يغادر الكثيرون غرفهم حتى لحضور اجتماعات السكن الجامعي، ويسألون عبر الرسائل النصية عما إذا كان بإمكانهم الدردشة عبر اتصال الفيديو بدلًا من ذلك". وأضاف مندهشًا: "لقد كنت حرفيًا عبر القاعة". وأشار مسؤول في جامعة أخرى إلى أن "هذا قد يكون الوضع الطبيعي الجديد، وقد لا تكون هناك عودة حقيقية إلى الماضي".
في حين أن جائحة كورونا ربما كانت المعجل الكبير، فإن تراجع "رأس المال الاجتماعي" (الروابط التي تدعم المجتمعات)، كان موضوع العمل الأكاديمي لعقود من الزمن. العمل الأساسي حول هذا الموضوع كان عبارة عن مقال أكاديمي كتبه عالم السياسة في جامعة هارفارد روبرت بوتنام عام 1995 (تم توسيعه لاحقًا وتحويله إلى كتاب، بعنوان "البولينج وحيدًا").
ويستمد العنوان من البيانات التي أظهرت أن عددًا أكبر من الأمريكيين كانوا يلعبون البولينج، ولكن عدد أقل وأقل كان يلعب في دوريات مجمعة.
يتابع بوتنام تراجع المجموعات الاجتماعية ويحاول تحديد الأسباب، ومن هنا لاحظ ببصيرة أن "المؤشر الأكثر ثباتًا هو التلفزيون". لقد أتاحت التكنولوجيا والإنترنت للناس جعل أوقات الفراغ نشاطًا خاصًا وليس نشاطًا جماعيًا.
الأمر يتجاوز الحرم الجامعي. في كتابي "عصر الثورات"، أشير إلى أن ما تسبب بالفعل بالعزلة في أمريكا، حتى عندما ظلت الدخول ثابتة أو مرتفعة، كان انهيار المجتمع في البلدات الصغيرة بأمريكا: "المتاجر التي تمتلكها الأسر الصغيرة تتلاشى إذ باتت غير قادرة على منافسة أمازون. ومراكز التسلية بألعاب الفيديو استبدلت بالألعاب عبر الإنترنت. ودور السينما المحلية بالبلدات تتراجع أمام Netflix وغيره من مقدمي خدمة البث حسب الطلب. والكنائس، حيث يتجمع الكثير من الأميركيين كل يوم أحد، أصبحت فارغة على نحو متزايد".
إن محطات المترو المركزية الكبيرة التي يتوافد عليها الجميع لديها مجتمعات، لكنها مجتمعات تشكلت إلى حد كبير من خلال وظائفنا. أشار الصحفي نيكولاس ليمان ذات مرة إلى أنه عاش في خمس مدن أمريكية: واشنطن ونيو أورليانز وأوستن وكامبريدج وبيلهام ونيويورك، ورأى أن المدينتين "الأكثر افتقارًا إلى فضائل بوتنام" (رأس المال الاجتماعي)، هما كامبريدج وواشنطن.
يرجع السبب، على حد تعبيره، إلى أن "هذه الأماكن تمثل فرصة كبرى. العمل يمتص كل الطاقة. والمجتمع يتم تعريفه وظيفيًا، وليس مكانيًا: إنه مجموعة أقران محترفة أكثر من كونه منطقة أو حي". ومن الطبيعي أن نتساءل عما إذا كان هذا الشعور بالانتماء للمجتمع هشًا، بحيث إذا فقدت وظيفتك، فسيتم إلغاء عضويتك في المجتمع معها.
لا يزال الحرم الجامعي اليوم من الأماكن المثيرة، حيث إنه مليء بالطلاب الأذكياء وذوي النيات الحسنة والأساتذة المتميزين وجميع أنواع الفرص التعليمية والأنشطة خارج المنهج الدراسي، لكنها ضعفت كمجتمعات فعلية، يختلط فيها الناس ويتفاعلون ويتعرفون ويثقون ببعضهم البعض.
وبهذا المعنى، فإن الجامعات اليوم لا تختلف كثيرًا عن المجتمع الأمريكي الأوسع، التي تعد انعكاسًا له.