دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تكشف العظام المحفوظة جيدًا التي تمّ انتشالها من حطام سفينة، عن الحياة التي عاشها طاقم السفينة المنكوبة "ماري روز"، وتقدّم رؤية مدهشة حول التغيرات في كيمياء العظام، والتي يمكن أن تفيد البحث الطبي الحديث.
كانت "ماري روز" واحدة من أكبر السفن الحربية في البحرية التيودورية خلال حكم الملك هنري الثامن حتى غرقت في 19 يوليو/ تموز عام 1545، أثناء معركة ضد الفرنسيين. حوصر المئات من الرجال على متن السفينة عندما غرقت في مضيق سولنت، الذين يقع بين جزيرة وايت والبر الرئيسي لبريطانيا العظمى.
في عام 1982، تمّ استخراج هيكل السفينة والتحف الخاصة بها، وعظام 179 من أفراد الطاقم من مضيق سولنت وإحضارها إلى السطح.
وعُرض الهيكل ومجموعته المكونة من 19 ألف قطعة بمتحف "ماري روز" في بورتسموث بإنجلترا، ويجري البحث على البقايا لكشف جوانب من هويات وأنماط حياة أفراد الطاقم.
قام الباحثون بتحليل عظام الترقوة لدى 12 رجلاً تتراوح أعمارهم بين 13 و40 عاماً لقوا حتفهم على متن سفينة "ماري روز"، لمعرفة كيف أثّرت مهامهم بالسفينة على التركيب الكيميائي لعظامهم. كما بحث الفريق عن علامات واضحة للشيخوخة وأدلة على استخدام اليد اليمنى أو اليسرى، أو اليد التي يفضلها أفراد الطاقم بشكل طبيعي.
نُشرت نتائج الدراسة يوم الأربعاء في مجلة PLOS One، ويمكن أن تساهم النتائج بفهم أفضل للتغيرات المرتبطة بالعمر في عظامنا.
وقالت الدكتورة شيونا شانكلاند، مؤلفة الدراسة الرئيسية، وهي زميلة بحثية بكلية لانكستر الطبية في جامعة لانكستر بالمملكة المتحدة: إنّ "تطوير معرفتنا بكيمياء العظام أمر بالغ الأهمية لفهم كيفية تقدّم هياكلنا العظمية في العمر/ وكيف تؤثر الظروف الطبية عليها".
وأوضحت أنّ "فهم هذه التغييرات قد يسمح لنا بأن نكون أكثر اطلاعًا على مخاطر الكسر، وأسباب حالات مثل هشاشة العظام التي تحدث عادةً مع تقدم العمر".
الغموض المستمر لسفينة "ماري روز"
في عام 1510، بعد عام واحد من اعتلاء العرش، وافق هنري الثامن على طلب إضافة سفينتين جديدتين إلى الأسطول الملكي. كانت "ماري روز" واحدة منهما، وأصبحت السفينة الرئيسية المفضّلة لدى الملك.
خاضت السفينة معركة ضد الفرنسيين في بريست بفرنسا خلال عام 1512، واستسلمت في معركتها الأخيرة خلال غزو كبير من قبل الأسطول الفرنسي في عام 1545. ورغم الثروة البحثية التي أجريت منذ استعادة السفينة، لا تزال هناك أسئلة حول سبب غرق السفينة.
وقالت الدكتورة أليكس هيلدريد، المؤلفة المشاركة في الدراسة ورئيسة قسم الأبحاث وأمينة الذخائر في متحف "ماري روز" إنه "بصرف النظر عن السبب، فقد انقلبت إلى جانبها الأيمن ودخل الماء من خلال فتحات المدافع المفتوحة".
وأضافت هيلدريد: "مع وجود منافذ قليلة بين الطبقات، وشبكة ثقيلة تغطي الطبقة العلوية المفتوحة، حوصر 500 رجل على متن السفينة. وكان أولئك الذين يتمركزون على الطبقات العلوية داخل قلاع القوس والمؤخرة، أو في الحبال، بمثابة الناجين الوحيدين".
ساعدت هيلدريد في عملية الإشراف على الحفر تحت الماء، من بينها استعادة أكبر تركيز للبقايا البشرية من الحطام، وقد سهّلت البحث عن العظام منذ ذلك الحين.
ورغم بقاء الحطام تحت الماء لمئات السنين، إلا أنّه كان محفوظًا بشكل جيد لأن طبقة من الرواسب التي استقرّت فوق السفينة خلقت بيئة خالية من الأكسجين، وفقًا لشانكلاند، التي ستكون محاضرة في جامعة غلاسكو في اسكتلندا بدءًا من نوفمبر/تشرين الثاني.
وقالت شانكلاند: "طبيعة هذه البيئة تعني أن بقايا البحارة لم تتدهور بالطريقة ذاتها التي قد نتوقعها في غالبية الاكتشافات الأثرية، ما يسمح لنا بالتحقيق بشكل موثوق في كيمياء العظام".
تفضيل اليد اليمنى
كانت شانكلاند مهتمة بفكرة دراسة عظام الترقوة في حطام السفينة لأنّ العظام تعرض خصائص فريدة تتعلّق بالعمر، والتطوّر، والنمو.
وأوضح الدكتور آدم تايلور، مؤلّف الدراسة المشارك، ومدير مركز التعلّم التشريحي السريري، وأستاذ التشريح في جامعة لانكستر، أنّ العظام على شكل حرف S من أوائل العظام التي تتكوّن في جسم الإنسان، لكنّها آخر العظام التي تندمج بشكل كامل، عادةً بين 22 و25 عامًا عند البشر. وتلعب دورًا حاسمًا في ربط الأطراف العلوية بالجسم، وتُعد عظام الترقوة من أكثر العظام تعرضًا للكسور.
ولفتت شانكلاند إلى أنّ فريق البحث استخدم مطيافية رامان، وهي طريقة غير مدمّرة تحافظ على العينات القيّمة، لدراسة العظام.
تتضمّن الطريقة استخدام الضوء لكشف كيمياء العيّنة. وقام الفريق بتحليل كيفية تفاعل الضوء مع الجزيئات داخل العظام، وسمحت التغييرات في لون الضوء للباحثين بتحديد مواد معينة.
تتكون العظام من توازن المعادن والبروتينات. وقالت شانكلاند إنّ المعادن توفّر للعظام المقاومة والقوة والصلابة، في حين يمنحها البروتين المرونة ومقاومة الكسر.
وأظهر التحليل أنّ توازن البروتين والمعادن يتغيّر مع التقدّم بالعمر، ويزداد محتوى المعادن في العظام أيضًا مع الوقت، وينخفض محتوى البروتين. وكانت التغييرات ملحوظة بشكل خاص في عظام الترقوة اليمنى، ما يشير إلى أن أفراد الطاقم فضلوا استخدام أيديهم اليمنى، لكن ربما لم يكن لديهم خيار.
وأوضحت شانكلاند في حديثها مع CNN أنه: "نظرًا لأنّ الأفراد في تلك الحقبة أُجبروا على استخدام اليد اليمنى، ذلك أن النظرة الى استخدام اليد اليسرى كانت سلبية في إنجلترا بالعصور الوسطى، فيمكننا أن نفترض أن هذا الاختلاف في الجانب الأيمن كان بسبب اليد اليمنى".
وفي ذلك الوقت، كان استخدام اليد اليسرى مرتبطًا بالسحر، لذا كان أفراد الطاقم يعتمدون على أيديهم اليمنى، ويضعون المزيد من الضغط على جانبهم الأيمن أثناء المهام المتكررة على السفينة.
ولفتت شانكلاند إلى أنّ فهم العلاقة بين اليد المستخدمة والتأثيرات على الترقوة أمر بالغ الأهمية. فعندما يقع الناس على الأرض، يمدون عادة يدهم المهيمنة لوقف وقوعهم، وهي إحدى أكثر الطرق شيوعًا لكسر الترقوة.
وأضافت أنّ ذلك "يشير إلى أن اليد المستخدمة تؤثر على كيمياء عظم الترقوة، ما يوفر اعتبارًا حديثًا مهمًا لخطر الكسر".
وتابعت: "تعزز هذه النتائج فهمنا لحياة بحارة تيودور، ولكنها تساهم أيضًا بالبحث العلمي الحديث حول محاولة فهم أكثر وضوحًا للتغيرات في كيمياء العظام والروابط المحتملة بأمراض الهيكل العظمي المرتبطة بالشيخوخة مثل هشاشة العظام".
اكتشافات جديدة
في كل مرة يدرس فيها الباحثون بقايا أفراد الطاقم، يكتسبون رؤى جديدة، مثل الخلفيات المتنوعة لبعض هؤلاء.
وقالت هيلدريد إن "حقيقة أن هذا البحث له فوائد ملموسة اليوم، بعد قرابة 500 عام من غرق السفينة، أمر رائع ومتواضع".
بعد ذلك، تسعى شانكلاند لدراسة بقايا الرماة على متن السفينة لمعرفة ما إذا كان العمود الفقري لديهم يحمل أيًا من علامات الحركات الفريدة التي قاموا بها، خاصة أنهم استخدموا أقواسًا طويلة، الأمر الذي يتطلب قدرًا هائلاً من دوران العمود الفقري عند سحب الوتر للخلف.
وخلصت شانكلاند إلى أن "هذا يعني أن أحد جانبي العمود الفقري يتعرض لضغط متكرّر أكثر في حركة يمكن التنبؤ بها، وبالتالي فإن التغييرات عبر العمود الفقري لن تكون متناظرة. أما التحقيق في أثر ذلك على العمود الفقري فمن شأنه تعزيز فهمنا للتغيرات الكيميائية في العظام مع تقدم العمر، لكن أيضًا مع الإجهاد الناتج عن النشاط".