هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
ثمة مقولة أمريكية مفادها عندما نصل الجسر نقطعه بمعنى نعبره. المراد من ذلك ترك المهمة لأوانها، فإن حصل، تم إنجازها على أكمل وجه. أكثر ما يتردد هذا المثال بين العسكريين وخاصة فرقة المشاة.
لم تغب عن بالي هذه الصورة وأنا أتابع الصور والأخبار الشحيحة التي توالت سحابة نهار الأحد من الشريان الرئيسي، من الجسر المعروف بثلاثة أسماء: الملك حسين والكرامة واللنبي، وهو ذلك الجسر الضيق القصير العابر فوق المنسوب الضحل لنهر الأردن بين ضفتي النهر المقدس لدى المسيحيين، شرقا المملكة الأردنية الهاشمية وغربا بين أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية (أريحا بحسب اتفاق "غزة-أريحا أولا") ودولة إسرائيل التي تحكمها الآن أكثر حكومة يمينية في تاريخ البلاد، تجاهر بأن عينها على وادي الأردن -وادي عربة- حيث لا حدود مشتركة مع الأردن سوى إسرائيل، بصرف النظر عن مآلات "رؤية الدولتين".
رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو اعتبر مقتل ثلاثة إسرائيليين برصاص سائق شاحنة أردنية بأنه مواجهة مستمرة مع ما سماها "أيديولوجية قاتلة" متهما إيران بالوقوف خلفها. تصريحات عززت ما قاله وزير خارجيته قبل يومين إن إيران تريد "تسليح" الضفة الغربية لتكرار "سيناريو غزة"، في إشارة إلى العمليات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية التي بدأت عمليا بعيد اندلاع حرب السابع من اكتوبر.
مكان الهجوم الذي يصر البعض على تسميته "عملية" حساس للغاية أمنيا وسياسيا وإنسانيا للجميع، للأردنيين والإسرائيليين، للفلسطينيين في غزة والضفة وعرب إسرائيل. أما زمانه فلا يقل دلالة، فقد أتى قبل يومين من الانتخابات النيابية الأردنية وثلاثة أيام من ذكرى اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، وفي الوقت الذي ينتظر فيه تحقيق اختراق أمريكي مصري قطري إسرائيلي "حمساوي" يحقق الصفقة التبادلية التي طال انتظارها لدرجة سُميت مفاوضاتها "الفرصة الأخيرة".
خلافا لنوايا التوظيف والتصعيد التي أرادتها طهران وأذرعها والمتحالفون معها بوعي أو بجهل، من الواضح أن العقل الأمني السياسي لدى الأطراف المعنية كافة، قد نجح في نزع فتيل أزمة كادت تعكر صفو ما يتم الإعداد له حثيثا من تبريد وانفراج.
لكن بصرف النظر عن نجاح المعنيين بتجاوز حادثة الجسر، ثمة ثقافة خطرة لا تزال تكرر الأخطاء ذاتها مع كل أعمال دامية في العالم بصرف النظر عن تسميتها "جهادا، مقاومة، إرهابا". هذه الثقافة ما زالت متروكة للمتطرفين من الأطراف كافة. يُؤثِر البعض التجاهل أو الصمت حتى ينزع الأوكسجين عن تلك النار فلا تحرق أحدا حتى تأكل ذاتها أو تحرق أصابع مشعليها. لكن الواجب كما علمتنا الأحداث في العالم كله، أن بعض الصور المتكررة من التمجيد والاحتفاليات (توزيع الحلوى) والمحاكاة التاريخية أو الإسقاطات التاريخية الجغرافية، لا بد لها من سرديات قادرة على دحضها بشجاعة وحنكة وكياسة حتى يتم وضع الأمور في نصابها الصحيح ولا يستمر التضليل والتحريض الذي عاجلا أم آجلا سيعيد إنتاج نفسه، ما دامت هناك اعتذاريات ودفاعيات في سرديات أبعد ما تكون عن الأمانة الصحفية والحكمة السياسية. لدينا مشكلة في صمت من كان واجبهم الكلام، لا تقل خطورة عن مشكلة القائلين أي كلام عن جهل أو سوء نية.
لذلك لا يلتفت العسكريون والأمنيون المحترفون -تماما كالمشاة- للخطباء، خاصة من يسيسون الخطاب الديني، يعرفون تماما كيف يبنون الجسور ويقطعونها "يعبرونها" فلا يهدمونها، فتتقطع سبل الحياة بين العابرين من الجهات كافة. ثمة مئات الشاحنات تحمل مع كل طالع شمس ومنذ أشهر، تحمل غوثا وعونا إلى غزة من الأردن وعبر الأردن من العالم كله. تلك الشاحنة تحديدا كانت تحمل مياها معدنية لعطشى في غزة المكلومة التي ينتظر أهلها بحرقة أمنا وسلاما طال انتظاره في إسرائيل أيضا ولبنان واليمن وسوريا والعراق وسائر دول المنطقة بما فيها إيران، على الأقل كما يقول رئيسها "الإصلاحي" الجديد!